نحن أمة تعشق الكلمة و ذاك فيما يبدو جزء من طبيعتنا و شخصيتها منذ الأزل، نحب التمدد على الحصير و أحاديث ضرب الكلام في الكلام التي لا تنتهي...
سلامنا يبدأ ثم لا يكاد ينتهي، تتخله كلمة "أشطاري" ألف مرة و مرة رغم علمنا أنه لا جديد...
الشعب الذي تتواجد أكثرية نخبه على الفيس و ليس تويتر هو نحن لأن الفيسبوك يسمج لنا بالكلام ثم الكلام ثم ...
أبطالنا الذين نعتد بهم هم الثرثارون الذين يخوضون في كل شيء أما أصحاب البث المباشر منهم فهم النجوم الذين يتحلق حولهم أصحابهم يستمعون في حماس و يطلقون وابلا من الإعجابات دون ملل أو كلل...
القصائد و الأراجيز صنعتنا بجدارة لا نقبل أن ينافسنا فيها أحد من العالمين...
و لعل هذه هي صنعتنا الوحيدة التي يمكن أن يُعتد بها لما تحويه من قيم و معان راقية لولا أنك تكاد لا تجد لتلك القيم و المعاني أثرا في حياتنا لأن الأثر نتاج الفعل و نحن بطبعنا أصحاب ضرب كلام في كلام.
عندما أبتُعثنا للدراسة في ثمانينيات القرن الماضي وجدنا صعوبة في الإنسجام مع طلاب ذلك البلد الذين كنا نسكن معهم في نفس الغرف، لأنهم تربوا على أن يناموا عند الساعة الثامنة مساء لكي يستيقظوا عند السادسة صباحا، أما نحن فلا نستطيع ذلك لأننا وفق ثقافتنا لا ننام قبل الثالثة و لا نستيقظ إلا ضحىً، أما الذي نفعله في سهرتنا فهو التحلق حول جلسة شاي صيني أخضر و عملية ضرب كلام في كلام أبدية...
"وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا * وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا"... كأننا لم نقرأها و لم نفقه معناها...
***
لو أن شمسنا الحارقة و رياحنا العاتية -و هي مجرد أمثلة لتوضيح الفكرة- كانت من نصيب شعب يكد و يجد لحولهما الى منتج و بضاعة يغمر بها أسواق العالم و بها يُنزل الأسعار الى الصفر في أسواق الطاقة العالمية... و لو أن رمالنا المتحركة -التي تشل حركتنا أينما توجهنا- كانت في بلد أهله يكدون و يجدون لحولوها الى منتج لا يستغنى عنه في كل بيت و لغمروا أسواق العالم بذلك المنتج الفريد ...
لو كانت تلك الموارد في بلد كاليابان أو الصين-مثلا- لأسسوا المدارس و معاهد البحث و الجامعات لدراستها و إكتشاف القوانين التي تحكمها و لحولوها الى نعمة بدل كونها نقمة عندنا نتأفف بها طول النهار و ليلته...
منذ ستينيات القرن الماضي نصدر للعالم خامات الحديد بنفس الطريقة و بنفس الكمية و النوعية تقريبا ثم في آخر السنة نقسم الثمن و نحتفل معتقدين أننا أنجزنا شيئا مذكورا...
لست أدري كيف كان سيكون الحال لو أن الفرنسيين لم يكتشفوا لأنفسهم مناجم خامات الحديد حينها و كيف كان سيكون الحال لو أنهم لم يؤسسوا لأنفسهم مؤسسة لإستغلاله... ربما كان حال خامات الحديد كحال الذهب أو النحاس أو السمك... "شاة بفيفاء" تتداعى الشركات العالمية إليها و نحن ننظر إليهم متعجبين و منتظرين فضلهم لنا على طريقة "قطع من شاربه و ألقمه" التي نعرف جيدا...
مؤسساتنا تمتلىء بالفنيين و المهندسين و الدكاترة الذين درسوا فنونا و مهارات مختلفة... لكن لا أحد منهم صنع لنا لمبة و لا مسمارا و لا إبرة... يذهبون صباحا الى مكاتبهم و يعودون مساء دون أن يحدثوا أي فارق في الحياة.
البلد الوحيد الذي لا تكاد تجد فيه بضاعة منقوشة عليها عبارة
"made in Mauritania"
هو بلدنا...
***
هذا ليس تشاؤما و ليس تحاملا و لا يأسا... كلا كلا... إنما هو تنبيه لي و لكم لأن نكون أمة منتجة مبادرة... بدل تعليق الخيبات و الإخفاقات على "شماعة" الحكومة التي تتحمل المسؤولية دون أن يكون في ذلك إعفاء لأحد... فكلم راع و كلكم مسؤول عن رعيته...
يحكى أنهم أرادوا إحراج أحد الحكام السيئين ذات مرة فسألوه: لماذا لا تحكما بالعدل و القسط و المساواة كما كان عمر رضي الله عنه يحكم و يسوس؟... أجابهم بأنه سيفعل ذلك بالتأكيد عند يكونوا معه مثل ما كان الناس في صلاحهم و إستقامتهم أيام عمر رضي الله عنه...
كم مرة تغيرت الحكومة عندنا؟... هل تغير شيء بعد مجيء التي بعدها؟...
لم يتغير شيء تقريبا، أليس كذلك؟...
و السبب هو أننا نحن لم نتغير و لا نريد أن نتغير أبدا... نريد -أو هكذا يبدو- أن نبقى شعبا كسولا ثرثارا لا يبغي بالوساطات و التدخلات بديلا، و لا يحب من العمل إلا "أتَّيْفي" ثم بعد ذلك يواصل ندب حظه العاثر منذ أكثر من ٦٠ سنة.
الأحوال السيئة لا تتحسن بالأماني " من يعمل سوء يجزى به"... و لا تتغير إلا بجهد و إرادة و قصد " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"... تلك سنن الله التي تحكم الحياة و الأحياء... و لن تجد لسنن الله تبديلا و لا تحويلا.
——————
#رصيد_الخواطر.