عندما ضربت *جائحة كورونا* العالم وأدهشته بضعف *الكوفيد* الذي تقضي عليه أبسط المعقمات وبقوته التي فتكت بأعمار من كانوا يتحصَّنون بأقوى الأنظمة الصحية وينتسبون لأقوى الدول وأكثرها اغترارا بسلطانها واحتسابا بمادياتها؛ بُهِتَ الجميع؛ ارتبك الزعماء وتاهت الشعوب. بعد تجاوز أو امتصاص الصدمة الأولى ذهنيا؛ عمدت دول العالم في مجملها إلى اعتماد إجراءات احترازية لمواجهة الفيروس الذي لم يكن مألوفا في شكله وتكوينه وسرعة انتشاره وتأثيره، فأغلقت الحدود ومنعت مغادرة كل الأدوات والمستلزمات الصحية ولسان الحال ناطق يردد نفسي نفسي.. لم تكن بلادنا بمنأىً عما يجري في العالم؛ وإن توهم بعضنا ذلك بدءا.. وكانت من بين الدول الأضعف، فلقد كشفت الجائحة هشاشة نظامنا الصحي وضعف البنية العامة للدولة، وظهر ذلك جليا في كل المجالات، وكان أظهر على مستوى التعليم؛ الذي لم تتسع بنيته العمرانية للتباعد الاجتماعي المطلوب صحيا، ولكون الاكتظاظ أصلا مشكل ضارب في كبد المنظومة التربوية وحائل سميك إلى جانب غيره من معيقات التعليم دون الجودة المطلوبة والنوعية المنشودة. وعلى مستوى الأمن الغذائي كنا الأضعف من بين الجميع لسبب بسيط تكشفه الحاجة في قوتنا اليومي إلى ما في يد الغير... في هذا الظرف الذي ضَعُفَ فيه الأقوياء والأغنياء وآثروا أنفسهم على غيرهم تعلُّقًا بحبل النجاة، كنا ننتظر الخضروات حتى تأتينا مع رياح الشمال وتارة نطلبها مع رياح الجنوب!!!، ونحن هم الذين تتميز بلادهم بطبيعة معطاء وأراض شاسعة تحفظ الماء على سطحها وتحضنه في باطنها، أي عبث هذا؟ وأي عجز؟ وأي كسل؟،
ألم يكن حري بمشاريع الدولة الكبرى أن تُرى راياتها هنا؟، أين رجال الأعمال (أصحاب الحظوة الكبيرة) من هذه القضية؟ إن جزءا يسيرا من أموال هؤلاء المحفوظة خارج الدورة الاقتصادية كفيل بتجاوز المشكل دون أن يتعرَّج مسار أموالهم النشطة!!، نحن بحاجة إلى حلول غير نمطية، وإلى تدخل مباشر من رئيس الجمهورية في هذه القضية بالذات.. نفس الأزمة في الخضروات تتبادر الآن بخصوص لحوم الدجاج بعد ما ظهرت الأنفلونزا في دجاج الجارة الجنوبية!!. وفي المجال الصحي يسجل جهد لا يُستهان به وإن كانت ثمة خُروقات لا تعكس حجم التطلعات ولا تترجم الدخول اللافت والانطلاقة القوية لوزير الصحة في بداية تقلده لمهامه على رأس الوزارة الأهم زمن الجائحة تحديدا، فسجل تزوير الوثائق لبراءة المصابين واستمرت الصيدليات في المضاربة بالأسعار وطبعا وجد هؤلاء نصيبهم من العقوبة وهي سابقة في المجال، لكن الإهمال الطبي في المستشفيات وعزوف كبار الأطباء عن الحضور المكثف وتفضيلهم للمكلِّف لذوي المريض؛ بارتفاع قيمة تعويض الحضور من ناحية أو بمضاعفة التكاليف إذا حصل التوجيه من المعني إلى عيادته الشخصية.. وما خفي أعظم. وفي مجال الصيد يؤسف على ما آلت إليه أحوال الصيادين من تدني الإنتاج وتراجع المردودية ومزاحمة بعض الشركات الأجنبية المعروفة باستنزافها للثروة وتحرك آلياتها بعيدا عن القانون!؛ كل ذلك يحصل مع التسويق الباهت والذي قد يكون مرده؛ او على الأقل ساهم في حصوله بالإضافة إلى أشياء أخرى؛ التأثر بجائحة كورونا.. لا يمكن أن يمر بنا الحديث عن الظرف الوطني الصعب دون الانتباه أو التوقف عند الاستثناء الذي تعيشه اسنيم عملاق الاقتصاد الوطني والذي يفتح باب الأمل من هناك، وطبعا رب ضارة نافعة، فأسعار خامات الحديد تشهد ارتفاعا غير مسبوق وتزداد مع استمرار الجائحة، ولكي لا تكون هذه الطفرة كسابقتها، وأعني تحديدا انتعاش الشركة وارتفاع أسعار الحديد بشكل كبير في الفترة: 2009-2013 حيث قفزت من 60.8 شهر أغسطس 2008إلى 187للطن خلال شهر فبراير 2011 وظلت بعد ذلك حتى نهاية هذه الفترة فوق حاجز 100 دولار محققة حصيلة أربعة مليار دولار وهو ما يعادل ميزانية الدولة الموريتانية في تلك الفترة ثلاث مرات، دون أن تترك الأثر الإيجابي المنتظرعلى الشركة وعمالها و الوطن بشكل عام!، وبدل ذلك انتفخت جيوب وتراكمت ممتلكات بعض الممسكين بزمام الأمور وكأن العمود الفقري للاقتصاد بقرتهم الحلوب التي ورثوها عن آبائهم!!، كان بالإمكان خلال هذه الطفرة أن تتجاوز الدولة كل المشاكل المتعلقة بالبنية العمرانية المدرسية وما يتعلق بالقطاع الصحي وكذا توفير أمن غذائي قادر على ضمان الحاجة في الشدة والرخاء. في هذا المقال آثرت الحديث فيما يتعلق بالتعليم عن البنية العمرانية اقتصارا –رغم كثرة المشاكل في القطاع وإلحاحها- لأن هذه المشكلة كان بالإمكان تجاوزها مع غيرها في تلك الفترة؛ وتتكرر الفرصة الآن ولا نرجو أن تعود بنا الأيام نفس الأدراج هبوطا إلى الهاوية، فمن المؤسف أن تظل البنية المدرسية تعجز عن استيعاب تلاميذ التعليم الخاص رغم القرارات والتوجهات التي تصطدم دوما مع صعوبة التطبيق، ويتواصل نفس العجز ويظل الولوج إلى الإعدادية عن طريق مسابقة وبموجها يرمى كثير من التلاميذ خارج أسوار المدارس!، فلم لا نجد حلا لهؤلاء ونوجههم مثلا بكثرة إلى التكوين المهني ونهيئ بنيته لاستيعابهم ونتكفل بهم؟، ولِمَ لا نعمل على رفع الطاقة الاستيعابية للمنشئات التربوية ونلغِ المسابقة الجبرية للولوج إلى الإعدادية؟. في الأخير نشيد بما حصل في مجال التعليم من تقدم على صعد مختلفة كان آخرها مضاعفة علاوة البعد للمدرسين وحصول المديرين على علاوة الطبشور، وهي مطالب قديمة ظلت مجالا للكتابة والنقاش والطرح حتى تحققت مع إعلان فخامة رئيس الجمهورية بمناسبة عيد الاستقلال الوطني؛ لكن المدرسين من غير المديرين مازالوا ينتظرون لفتة بذات الحجم والاعتبار -على الأقل- أو بشكل يوازي نسبة ثلاثين في المائة التي حصل عليها عمال قطاع الصحة أو على غرار الزيادة الشاملة التي استفاد منها منتسبو الأسلاك العسكرية، ورغم أحقيتهم للاعتبار والشكر وتحسين الظروف إلى جانب عمال الصحة؛ يبقى قطاع التعليم الركيزة الأساسية التي بوجودها قوية يقوى كل شيء وبهشاشتها يضعف ويختفي كل شيء. علينا أن نعيد النظر إلى المنظومة التربوية التي قلما تجد طريقا إلى الإصلاح والتنظيم إلا واصطدمت بجبال الإعاقة والتخريب والأمثلة في الماضي كثيرة، وهنا تتنزل أهمية المنصة الألكترونية قيد الإنجاز لما يعول عليها من ضبط للمعلومات وتنظيم للكادر البشري ولمسار المنظومة التربوية بالدقة التي تأبى التكرار والرقابة والمتابعة التي تحول دون الاختفاء والفرار التي كانت جيوبا لإهدار الطاقة البشرية للمنظومة التربوية ، إلى جانب ذلك ينبغي الإسراع في حل مشكل مقدمي الخدمات بشكل يجمع ولا يفرق ويجعل الاستفادة من هذه الطاقات الشبابية الحية ممكنا.. بقي أن نشير إلى أن التوزيع الذي عُمد إليه مرات للتخفيف من تأثير الجائحة على المواطنين الأكثر حاجة؛ كان مهما لكنه لا يقارن في الأهمية مع توجيه تلك المبالغ الضخمة إلى إقامة مشاريع تنموية خاصة في مجال الأمن الغذائي والتي من خلالها يمكن الحصول على الاكتفاء الدائم من المواد الضرورية للحياة اليومية، علينا أن نهيئ للأجيال القادمة الأرضية المناسبة للتنمية الفعالة المستدامة ولا نتركهم يعيشون نفس المأساة بالحاجة إلى غيرهم في مطعمهم من الخضروات، فغدا عندما يخبو كورونا وتطير العصافير في أرضنا ينبغي أن تكون غدت خماصا من وكناتها وراحت بطانا من ثمار حقول ألفت جهد وسواعد أبنائنا.