يعتبر الكتاب المدرسي أهم دعامة تربوية يمكن أن توفرها الدولة، وهو خير رفيق وأقوى سند لكل مدرس وأفضل أنيس لكل طالب وأَفْيَدُ مرتع لكل تلميذ؛ وبعد أن كانت منظومتنا التربوية تعتمد في العقدين الأولين من عمر الدولة بعد الاستقلال على كتب مدرسية أجنبية (عربية، إفريقية، فرنسية) بدأ إنتاج كتب وطنية تطبع في الخارج-العراق والكويت- مثل: *الشامل* في ثمانينيات القرن الماضي، ثم أُنشئت المطبعة المدرسية التي بدأت عملها الفعلي سنة 1990 أي بعد سنتين من إنشائها، وهي المطبعة التي كان لها دور هام في طباعة ما أمكن من عناوين داخل البلاد تخفيفا للأعباء العامة للطباعة، وهي الأعباء التي لم تستطع هذه المطبعة الفتية ذات القدرات المحدودة مواكبتها؛ والتي ظل اعتمادها الأساسي على تمويلات ودعم صناديق وبرامج إنمائية عربية وأجنبية؛ تخلفت الحكومات الوطنية المتعاقبة كثيرا عن مجاراتها أو أخذ المبادرة كليا بدلا عنها، ونظرا للتطور الكمي والنوعي الذي شهدته المنظومة التربوية؛ تولدت حاجة ماسة إلى تطوير وحدة المطبعة المدرسية التي تعد الرافد الأساسي للكتابي المدرسي، وهو ما تم العمل عليه دون أن يحقق المطلوب لجسامة التحدي واضطراب المنظومة التربوية وهشاشة وحدة الإنتاج..
ويمكن القول أن هذه المرحلة خُتِمت بفترة المجانية الشاملة التي استمرت ثماني سنوات تقريبا قبل أن تبدأ مرحلة التسويق الرمزي نهاية العام -2016- وتستمر إلى الآن. -عملية المجانية الشاملة: وقعت في الفترة الممتدة من 2008 إلى 2016 تقريبا وشهدت طباعة أكبر عدد من الكتب بنسب غير متوازنة؛ فمثلا توفرت عناوين كثيرة بكميات كبيرة وفُقِدت عناوين أخرى أو توفرت بأعداد أقل بكثير، وكانت الحالة العامة لهذه الكتب المطبوعة خارج البلاد جيدة جدا من حيث الشكل ونوعية الورق والغلاف وإن كان المضمون في كثير منها وردت عليه مآخذ كبيرة، بالإضافة إلى الحجم الذي لم يراعَ فيه كثيرا خصوصية الأطفال ولا مراحلهم العمرية ، وكان المقصود من هذه العملية توفر الدعامة التربوية الأهم بين يدي التلاميذ في كل نقطة من الوطن بالاعتماد على الإدارات الجهوية للتعليم في كل ولاية؛ نيابة عن المعهد التربوي الوطني أو تحييدا له؛ مع العلم أنه هو الجهة المسؤولة أصلا عن إنتاج وطباعة وإيصال الكتاب المدرسي!.. لم تتحقق الغاية من هذه العملية ولم تصل الكتب إلى كل التلاميذ؛ بل بقيت حبيسة المخازن الجهوية حتى استرجعتها الوزارة وتسلمها المعهد التربوي الوطني عن طريق إداراته الجهوية نهاية العام 2016، وكان مبرر عدم نقل هذه الكتب المسترجعة حسب بعض المديرين الجهويين للتعليم هو عدم تعويض الوزارة لتكاليف نقل هذه الكتب داخل الولايات، وهو أمر قد يُقْنِع لولا وجود بعض المدارس في تماس مع بعض إدارات التعليم أو مخازنها دون توفر تلاميذها على كتب بالرغم من تخزينها على بعد أمتار منها!!.
-عملية التسويق الرمزي:
بدأت عملية التسويق الرمزي للكتاب المدرسي بعد صدور المرسوم رقم 2016/0173 الصادر يوم 27/09/2016 القاضي بإنشاء صندوق لدعم النشر المدرسي، وكان المقصود منها أولا أن تحقق ما عجزت عن تحقيقه المجانية الشاملة، فَفُتِحت الأكشاك وزودت بالكتب من أجل تسويقها رمزيا بِعُشْرِ تكلفتها تقريبا، وكانت الغاية من ذلك زرع قيمة لهذه الكتب بفعل صرف تعويض مقابلها وإن كان بهذه الرمزية؛ لأن النفس البشرية ميالة إلى حفظ ما صرفت فيه قيمة مادية أيا تكن تلك القيمة. ومع أن عملية التسويق الرمزي للكتاب المدرسي كانت خطوة جيدة من شأنها الرفع من قيمة التعاطي مع الكتاب المدرسي ومن خلال ذلك الإسهام في النهوض بالمنظومة التربوية، إلا أنها تعثرت كثيرا بفعل عدم مرافقتها بما يلزم للنجاح ويحقق الهدف المحدد أصلا؛ وتوقف بها المطاف إلى حيث ينتهي دائما بكل الخطوات والإصلاحات التي تطال قطاع التعليم حين تُحجب عنها الوسائل الضرورية للتجسيد، ويبقى الحال يعيد نفسه ويكرر ذات المشهد؛ حبر كثير وأوراق متناثرة وأثر قليل وتيه في المسير..
باختصار جعجعة تنتج غبارا بدل الطحين. إن عدم توفر الكم المطلوب من الكتب المدرسية في أكشاك البيع ولّد سخطا عند الأهالي الذين لا يدركون حقيقة قدرات المعهد التربوي التي لا تتجاوز القدرة على توفير ثلث المطلوب والثلث فقط في أحسن الأحوال، إذْ كان لابد من اقتناء طابعات كبيرة وجديدة قادرة على إنتاج الكم المطلوب أو إجراء مناقصة لطباعته في الخارج كما كان يحدث في الماضي وهو الإجراء الذي لم يحدث رغم ذَيَعان أخبار مناقصة آخر أيام الحكم الماضي انتهى بها المشوار إلي التعطيل قبيل الانتخابات الرئاسية الماضية... إن الطابعات الموجودة بالمعهد التربوي الوطني متهالكة وقديمة جدا ولا يمكن الرهان عليها في توفير الحاجة من الكتب والتي تتجاوز عتبة المليوني كتاب لا يتوفر وفق المراجعات الأخيرة ما يصل منها إلى الثلث، هناك كميات كبيرة من الكتب (طبعات قديمة) لكنها خرجت عن دائرة الاعتماد بفعل دوامة المراجعات التي لا تنتهي والتي تستهوي المسؤولين عن صياغة المناهج دوما. -الحلول والبدائل:
1- الاستمرار في عملية التسويق الرمزي للكتاب المدرسي لكن بعد ضمان توفير الحاجة من الكتب وتغطية النقص الحاصل، وهو ما لم تظهر بوادره الحقيقية حتى لحظة كتابه هذه السطور، ونحن على أعتاب عام دراسي يُطِلُّ مباشرة بعد نهاية آخر استثنائي تتهيّأ المنظومة التربوية لإجراءات تقفيله بآخر المسابقات والامتحانات.
2- العدول عن عملية التسويق الرمزي واعتماد المجانية الشاملة بضوابط ومحددات جديدة تكون أكثر جدوائية، فمثلا يلتزم المعهد التربوي الوطني بإيصال الكتب المدرسية إلى التلاميذ في فصول الدراسة دون الانسلاخ من تلك المسؤولية في أي مرحلة من مراحلها لأي كان؛ طبعا هذا لا يُلغي التنسيق مع الإدارات الجهوية للتعليم ولا يُغني عن الاستعانة بمديري المدارس ورابطات آباء التلاميذ والهيئات المنتخبة محليا، وبعد ذلك يتابع بدقة وانتظام طبيعة استخدام هذه الكتب ومدى المحافظة عليها واستفادة التلاميذ منها ومستوى تفاعل المدرسين معها. في ختام هذه السطور؛ على الجهات المسؤولة عن تسيير المنظومة التربوية ورعاية الحقل التربوي بشكل عام؛ أن لا يغيب عن إدراكها أن الأهداف المرسومة لا يمكن تحقيقها بنجاعة دون خطوات عملية ملموسة الإجراءات، محددة المعالم، مضبوطة الإحداثيات، وعليهم أن يفهموا أن في طليعة إصلاح المنظومة التربوية؛ انتشال الكتاب المدرسي من التيه والتخاذل والضياع.