في مقال الأسبوع الماضي تطرقنا إلى حجم الإنتاج والمعروض العالمي من خامات الحديد المتوقع خلال السنة الجارية، وكذلك حجم الطلب العالمي فى ظل جائحة كورونا، وخلصنا إلى أن الوضع الوبائي حتى الآن ليس له تأثير كبير على عمليات الإنتاج خاصة في أستراليا أكبر المصدرين لكن العكس قد حصل مع صناعة الصلب خاصة في أسواقها الثلاثة الكبرى خارج الصين التي تعتمد على استيراد المادة الخام (أوروبا، و اليابان، وكورويا الجنوبية)، وهو ما يعني أن مستقبل الأسعارارتفاعا وانخفاضا سيعتمد إلى حد كبير على مدى انتعاش صناعة الصلب في الصين، ومدى تقلصها في الأسواق الثلاثة أعلاه، وختمنا بأنه حسب الحالة الراهنة، والبيانات الاستقرائية، وانحسار الوباء زمنيا وجغرافيا قد نكون أمام العديد من السيناريوهات المحتملة للأسعار خلال المتبقي من السنة، أكثرها ترجيحا السيناريوهات الأربعة التالية:
(1)
السيناريو الأول
السيناريو الأول الأكثر احتمالا، مرتبط بانحسارالوباء عالميا قبل أغسطس، وأن تشهد الصين انتعاشا قويا في صناعة الصلب كما هو متوقع، مما سيفتح شهيتها لاستيراد المزيد من المادة الخام قد يصل حسب تقديرات رابطة الحديد والصلب الصينية إلى ما بين 40 إلى 70 مليون طن في ظل خفض حجم الإنتاج العالمي السنوي، وبالتالي حجم المعروض بما بين 20 إلى 35 مليون طن نظرا لإعلان شركتي فالي (Vale) و ريو تينتو (Rio Tinto) عن تقليصهما لحجم إنتاجهما، وسط توقعات بحصول انخفاض في الطلب على المادة الخام في كل من الاتحاد الأوروبي، واليابان، وكوريا الجنوبية بحوالي 57 مليون طن بسبب حصول انخفاض في إنتاجهم من الصلب الخام بنسبة 15٪ في اليابان، وكوريا الجنوبية، وبنسبة 20٪ في الاتحاد الأوروبي.
انتعاش الطلب على المادة الخام في أكبر سوق قد يغطي نقص الطلب في الأسواق الاثلاثة الأخرى خاصة في ظل
تخفيض إنتاجها، وهو ما يعني أننا قد نكون مع نهاية العام أمام فائض أو نقص طفيف في المعروض، مما يعني أن السوق قد تصبح في حالة توازن، وبالتالي تدعم الأسعارالتي نعتقد أنها في هذه الحالة قد تبقى تتذبذب في نطاق ما بين 80-95 دولارا للطن خلال المتبقي من السنة.
(2)
السيناريو الثاني
السيناريو الثاني، يشبه ما حصل في حادث 25 يناير من العام المنصرم في البرازيل التي تستحوذ على حوالي 23% من إجمالي الإمدادات العالمية من خامات الحديد، فمع زيادة الانتشار الكبير للوباء في دول أمريكا الجنوبية خاصة البرزيل، والبيرو مع انحساره في أوروبا، و آسيا، قد تتأثر إمدادات خامات الحديد خاصة من البرازيل، التي يقترب عدد الإصابات فيها من 100 ألف من بينهم على الأقل إثنين من عمال شركة فالي بولاية ميناس جيرايس حسب وثيقة صادرة عن الشركة نهاية مارس المنصرم. في هذه الحالة، وفي ظل زيادة الطلب من الصين في غياب القدرة على تغطية النقص المؤقت في الإمدادات من ثاني أكبر مصدر قد نشهد نقصا في المعروض يرفع الأسعار مؤقتا إلى ما فوق عتبة 100 دولارا للطن، وستبقى دائرة اتساع هذا الصعود في الأسعار خلال المتبقي من السنة مرتبطة بمدى نقص الإمدادات المتوقع ومدته.
(3)
السيناريو الثالث
أما السيناريو الثالث الأقل احتمالا، فهو مرتبط بأداء الاقتصاد العالمي، و زيادة الطلب على الصلب الخام خارج الصين، فحتى لو استثمرت الصين في البنية التحتية فقد تتراجع أسعار الصلب الخام مدفوعة بتخمة كبيرة في المعروض خاصة أن الصين تصدر سنويا حوالي 65 مليون طن من منتجات الصلب، هذا بالإضافة إلى أن بيانات رابطة صناعة الحديد والصلب الصينية تشير إلى تجاوز إجمالي مخزون الصلب الخام لدى المصانع الصينية نهاية مارس المنصرم 55 مليون طن، وهو مستوى أعلى بحوالي 160% من حجم المخزون نهاية السنة المنصرمة. تخمة المعروض من الصلب الخام داخل الصين في ظل التوجه العالمي إلى مبدأ اللاعولمة وإغلاق الحدود، وانتهاج الاقتصاد الانعزالي الذي يقود إلى المزيد من القيود على الصادرات قد تؤدي إلى تقلبات شديدة في السوق تفضي إلى تراجع كبير في أسعار الصلب الخام، مما قد يضغط على أسعار المادة الخام، و تراجعها إلى ما تحت 70 دولارا للطن خلال المتبقي من السنة.
(4)
السيناريو الرابع
السيناريو الرابع الأكثر تشاؤما، هو مرتبط باحتمال استمرار الوباء إلى ما بعد أغسطس المقبل خاصة في أوروبا، وأمريكا، واليابان، وكورويا، والهند، وهو ما قد ينتج عنه تقليص كبير في إنتاج مصانع الصلب أكبر من توقعاتنا المشار إليها أعلاه، مما يعني انخفاض كبير في الطلب على المادة الخام ينتج تخمة في المعروض من المادة الخام مع نهاية العام تصل إلى أكثر من 100 مليون طن، وهذا ما سيعزز من المخاوف من اتساع دائرة انهيار الأسعار، التي نعتقد أنها في هذه الحالة قد تنخفض إلى مستوى ما بين 45 – 60 دولارا للطن، بل إن الأسعارقد تنهار كليا على إثر التأثيرات السلبية لطول مدة بقاء الوباء خاصة إذا ما شهدت الصين موجة جديدة من تفشيه خلال المتبقي من السنة.
هذه السيناريوهات الأربعة الأكثر احتمالا، الإيجابية و السلبية منها كلها تحت رحمة الوباء من انتعاش في صناعة الصلب، والاستثمار في البنية التحتية إلى مصائب قوم عند قوم فوائد، كلها سيناريوهات متوقعة الحدوث، وقد تتداخل أو تتعاقب خلال الربع الثاني والثالث من السنة الجارية، وهو ما قد يقود في أفضل الأحوال إلى أن ينخفض المعروض ويدفع الطلب الأسعار إلى الارتفاع، وفي أسوأ الأحوال إلى أن تتراجع الأسعار أو تنهار تحت ضغط تفاقم تخمة المعروض.
وتبقى الحقيقة التي لا مراء فيها أن صدمة بهذا الحجم و الشمول لابد أن يكون لها تأثير على الأسعار طويل الأمد إن لم يكن دائما، كما أن تفسير مستقبل الأسعار اعتمادا على قاعدة السوق المتمثلة في التفاعل بين العرض والطلب وحدها غير كافي خاصة أن سوق خامات الحديد الورقي تجاوزت السوق المادية، حيث أصبحت تجارة الورق تتعدى مداها الفيزيائي بأضعاف كبيرة، وهناك الآن من قطع أشواطا كبيرة في السعي إلى تغيير قواعد التجارة، والتحكم في التسعير؛ وهذا ما يتطلب منا كدولة يعتمد اقتصادها بل وحتى وجودها إلى حد كبير على تصدير هذه المادة الاستراتيجية إعطاء أهمية بالغة على أعلى المستويات لهذا الموضوع.
يتواصل إن شاء الله
د. يربان الخراشي