اصبح من الواضح للعيان التوجه الجديد للعمل الحكومي في موريتانيا بعد تشكيل حكومة كفاءات مكلفة بتنفيذ برنامج انتخابي طموح و الحديث عن إعادة هيكلة و تنظيم بعض الوزارات كما يلاحظ خطاب جديد يميل أكثر الي المهنية .
لكن هذه الخطوات علي اهميتها لن تحدث نتائج هامة اذا لم يصاحبها تغيير جذري في الخطط و السياسات الاقتصادية و التنموية .
كارثة التخطيط التنموي
فالمتتبع العادي للسياسات التنموية في موريتانيا يلاحظ ببساطة قصور في الرؤية و اختلال في تشخيص التحديات الكبري ، والاقتصار على معالجات محدودة للمشاكل و انحرافها عن الواقع المعيشي بسبب:
عدم دقة المعطيات إذ يعتبر الاحصاء ذو الطابع الاقتصادي أساس السياسات التنموية فقد تم وضع الاطار الاستراتيجي لمكافحة الفقر الذي شكل محور السياسات التنموية ما بين العام 2000 و 2015 و انفقت فيه المليارات علي اساس معطيات احصائية غير دقيقة – باعتراف السلطات - و هو ما شكل أكبر عائق أمام تحقيق أهدافها .
وتكرر نفس الخطأ حيث تمت صياغة الإستراتيجية الوطنية للنمو السريع و الرفاهية المشتركة (SCAPP) سنة 2016 للفترة 2018-2030 بناءا علي معطيات احصاء 2013 بنفس الطريقة من دون أي برنامج مسبق لتعزيز القدرات الاحصائية و هكذا صيغت الاستراتيجية أولا قبل بدأ تنفيذ إصلاح قطاع الاحصاء الذي وضعت له استراتيجية وطنية سيتم تنفيذها في الفترة ما بين 2016 و 2020 أي بمعني أخر تم الاعتراف ان المكتب الوطني للإحصاء يحتاج إصلاحا وفي نفس الوقت تم الاعتماد علي الإحصاءات التي قام بها .
كما يلاحظ خلل في توقعات التمويل فعلي سبيل المثال تنص الإستراتيجية الوطنية للنمو السريع والرفاهية المشتركة (SCAPP) علي أن إنتاج سنيم من الحديد سيصل 40 مليون طن خلال 2025 وهو ما سيوفر مصادر مالية لتمويل الإستراتيجية و لم تأخذ بعين الاعتبار الازمة الخانقة التي يعيشها القطاع عالميا و لا التوقعات المستقبلية للأسواق الصينية خصوصا أن الإستراتيجية تمت صياغتها في وقت بلغت فيه الأزمة أوج حدتها ، ولولا تحسن الاسعار بسبب اغلاق منجم لشركة فالي البرازيلية بعد الانهيار المفاجئ لأحد السدود الرئيسية لما تمكنت سنيم من التقاط نفس بسيط يبقي بعض الأمل بالبقاء علي قيد الحياة .
وهو ما يعطي الانطباع بأن الاستراتيجيات السابقة تم وضعها من أجل الحصول علي التمويلات فقط .
و علي مستوي السياسات القطاعية يلاحظ علي سبيل المثال:
خلل كبير جدا في قطاعي الزراعة و التنمية الحيوانية وهما القطاعين الذين يلامسان حياة غالبية السكان بشكل مباشر حيث أن السياسة المتعلقة بالتنمية الحيوانية تم وضعها من دون تعداد للماشية فآخر احصاء يعود الي الحقبة الاستعمارية و تم وضع السياسة الزراعية من دون تصور واضح حول ملكية الأراضي الزراعية إذ لا توجد إحصاءات موثقة عن ملكية الأراضي في حوض نهر السنغال باستثناء سجلات للأراضي في روصو كما يلاحظ ببساطة ان السياسات الزراعية لا تفرق كثيرا بين الزراعة التقليدية و الزراعة المروية.
و تعطي هذه الاحصائيات الانطباع بأنها مضخمة من أجل تبرير شراء كميات كبيرة من الاسمدة و المبيدات بالنسبة للقطاع الزراعي و الاعلاف و الادوية بالنسبة لقطاع البيطرة .
ويلاحظ أيضا غياب مفهوم الصحة الواحدة عن الإستراتجية الوطنية الصحية بما يعنيه من تركيز علي العلاجات و إهمال للوقاية اذ يعتبر الإنفاق علي الوقاية (المياه والصرف الصحي و النظافة الصحية) محدودا مقابل الإنفاق علي الرعاية الصحية الذي يعتبره صندوق النقد الدولي كارثيا حيث يرجح أن يتراجع 1.5 في المئة من السكان خلف خط الفقر بسبب الإنفاق الكارثي على الرعاية الصحية (أي أكثر من 160 شخصا في اليوم الواحد).
ولا توجد نظرة استراتيجية لتحقيق الامن الغذائي باستثناء بعض الاستراتيجيات والخطط التي تٌعد في إطار البحث عن التمويلات، إذ تمحورت تدخلات الدولة علي شكل معونات غذائية، و غابت التدخلات التي تهدف الي تشجيع استقرار الاسعار أو تخفيضها و التي تعتبر أهم معوق للمجال حيث كشف التحليل الذي أُجري لسعر القمح والأرز المستوردين في نواكشوط في العام 2014 أن أكثر من نصف سعر التجزئة هو هوامش ربحية للتجار الموزعين .
و في مجال التشغيل تتركز جميع الخطط علي محور الطلب و تهمل العرض بشكل مطلق إذ تنحصر في مجال تكوين و تدريب العاطلين علي حساب خلق الفرص و هكذا يتم الانفاق علي تحضير الشباب العاطل من اجل الحصول علي وظائف غير موجودة اصلا ذلك أن سبب الأزمة الحقيقي هو عجز الاقتصاد عن إنتاج وظائف .
ويعتبر مجال التعليم اكبر ضحية للسياسات و الخطط المتضاربة، إذ مر علي عدة سياسات اصلاحية فاشلة تشترك كلها في زيادة الكم من دون تعزيز آليات رقابته و تسييره بالإضافة الي اهمال جودة التعليم و نتائجه و لا أدل علي ذلك من أن الموارد المحددة لتحسين نتائج التعليم تمثل 15 في المائة من الانفاق علي المجال مقابل 85 في المائة للنفقات الجارية.
و يلاحظ ضعف التخطيط في سياسات التكوين المهني حيث تتجاهل القطاعات الهامة فعلى سبيل يشغل قطاعي الزراعة و التنمية الحيوانية حوالي ثلثي القوي العاملة في البلد و مع ذلك تم تجاهلهما بشكل تام من طرف هذه السياسات.
و في مجال الصيد لا تحتوي مختلف الخطط الوطنية المتوالية لتطوير القطاع علي أي مقترح لترقية المنتج و لا علي تطوير تسويقه ، حيث لا تزال الشركة الوطنية لتسويق الاسماك تتولي بيع الانتاج المحلي لنفس الزبناء بنفس الاسلوب منذ أكثر من 30 عاما، كما أن القطاع عاني من الكثير من القرارات الارتجالية التي تفتقد لأبسط معيار فني فعلي سبيل المثال تم اتخاذ قرار بإبعاد منطقة الصيد السطحي من 12 الي 20 ميلا أي ارغام السفن علي الصيد في منطقة لا توجد فيها ثروة بالرغم من توفر المعطيات العلمية التي تؤكد عدم وجود اسماك في تلك المنطقة، و قد تراجعت الوزارة عن القرار ايضا من دون أي استشارة فنية، و كمثال أيضا تم اتخاذ قرار بطرد الصيادين السينغالين من دون التأكد من توفر الصيادين الموريتانيين أو خطة تدريجية للمرتنة و هو ما تسبب في شلل لقطاع الصيد التقليدي .
وطالت أخطاء التصميم و التخطيط البرامج الاستعجالية فمثلا يؤكد التقرير التقويمي لبرنامج أمل الذي يعتبر أهم برنامج استعجالي خلال السنوات الاخيرة أن المنح التي يستفيد منها السكان تمثل 40 بالمائة فقط من البرنامج بينما تستهلك نفقات التسيير (رواتب الموظفين ـ ايجار المحلات و المخازن ـ نقل البضائع ...الخ ) نسبة 60 في المائة .
ولم تسلم المشاريع الاقتصادية المنجزة من سوء التخطيط و غياب دراسات الجدوائية و ضعف دراسات ما قبل التنفيذ وهو ما أدي الي عدم الاستفادة الشاملة من هذه المشاريع في أحسن الاحوال و ضياعها في اسوأ الاحوال فمثلا :
- أنفقت المليارات في مشروع نهر السنغال من دون رؤية واضحة للاستفادة من مياهه وهو ما جعلنا اليوم لا نستهلك من حصتنا منه سوي أقل من 12%، و الباقي مياه تضيع سدي في المحيط . كما أن مشاريع الاستصلاح المائية الكبري في حوض النهر قضت علي الزراعة الفيضية، ولم تؤدي إلي تطوير الزراعة المروية و هو ما حول تلك المنطقة الي مثلث للفقر بعد أن كانت مصدر الحبوب في موريتانيا .
- وقد شكل برنامج كهربة 13 مدينة أهم البرامج في مجال الطاقة في التسعينات حيث اعتمد في انجازه علي مولدات تعمل بالبنزين العادي الذي ما لبث أن تضاعفت أسعاره بشكل متسارع ليتحول المشروع الي عبأ مالي يثقل كاهل ميزانية شركة الكهرباء قبل ان تتدخل السلطات مؤخرا لتزويد المحطات بالطاقة الشمسية للتقليل من الاعتماد علي البنزين .
- و تم الاستثمار في انتاج عشرات الميغاواتات من دون ايجاد استهلاك حقيقي له كما أنه أكبر بكثير من سعة شبكات النقل او التوزيع الموجودة و اصبح هناك فائض كبير جدا يتم هدره و تحاول الحكومة استغلال هذا الفائض خلال محاولات تصديره الي الدول المجاورة .
- ويبقي أكبر خطـأ كارثي هو استثمار المليارات في شركة صوملك لزيادة انتاج الطاقة الكهربائية في الوقت الذي لا تزال يضيع ما بين 25 الي 30 في المائة من الانتاج قبل وصله للمستهلك و لا تسدد فواتير ما قيمته 20 في المائة ، إن زيادة الانتاج بهذا الكم و رغم هذه الخسارة الفنية و التجارية ليس إلا زيادة في حجم الكمية الضائعة .
- وفي مجال المياه يعتقد أن ضخ مياه أفطوط الساحلي في شبكة توزيع نواكشوط القديمة و المتهالكة هو الخطأ الفني القاتل الذي تسبب في ارتفاع منسوب مياه العاصمة و شكل مصدر قلق كبير خلال السنوات الماضية .
- نفس الشيء ينطبق علي مطار نواكشوط الجديد أم التونسي الذي تم بناؤه بطاقة استيعابية كبيرة جدا و من ثم بدأت رحلة البحث عن مسافرين ، و تحاول السلطات حاليا تصحيح الوضعية عبر عقد مع شركة مطارات ابوظبي .
- و يستمر نفس المشكل في مجال التنمية الريفية حيث حاولت الوزارة تثمين المنتجات الحيوانية ببناء مصنع للألبان في مدينة النعمة من دون ضمان امدادات دائمة من الحليب و الذي لا يتوفر إلا في موسم الخريف وفي بقية المواسم تهاجر قطعان الماشية بعيدا عن المصنع للبحث عن الكلأ و لتدارك هذا الخطأ الكارثي تحاول الجهات المعنية تثبيت بعض القطعان من خلال انشاء مزرعة للأعلاف في المنطقة تعتمد علي مياه جوفية وهو خيار قد لا يكون صائبا بالضرورة .
- و قد تم اخذ قرار زراعة القمح دون التفكير في مكان زراعته فالإستصلاحات الموجودة صممت لزراعة الأرز وهو محصول يتحمل الغرق ويمكنه إكمال دورته في الماء عكس القمح و تمت محاولة فاشلة لإدخال زراعة البطاطا في بحيرة كنكوصة بسبب اخطاء فنية اخري .
- و تم انشاء منطقة أنواذيبوا الحرة بشكل ارتجالي و من دون جدوائية واضحة و نفس الشيء ينطبق علي محاولة انشاء بورصة للأسهم في نواكشوط وهو المشروع الذي لم ير النور .
- ولم تسلم شركة سنيم من الاخطاء الفنية القاتلة فبرغم تجربة الشركة في معالجة الخامات من خلال مصنع القلب 1 يعاني مصنع القلب 2 من أخطاء فنية كبيرة حيث بالكاد ينتج مليون طن سنويا حاليا علي الرغم من كونه نسخة من المصنع الأول .
- و تعاني غالبية البني التحتية و التجهيزات المختلفة في كافة القطاعات من ضعف شديد في الصيانة و عدم انتظامها في احسن الاحوال و غيابها التام في أسوأها .
وحتى علي مستوي متابعة و تقييم المشاريع يلاحظ أن جميع مؤشرات قياس الاداء تركز علي النواحي الادارية للمشروع فقط من دون أي تقييم للخطط الفنية و لا للأثر الاقتصادي و الاجتماعي .
من يخطط لموريتانيا ؟
بطبيعة الحال لا تتحمل الارادة السياسية هذه الاخطاء الكارثية بقدر ما تتحمله الطواقم الاقتصادية و الفنية هذا بالإضافة الي البنك الدولي وبقية الشركاء .
و ترجع أهم أسباب هذا الفشل الي ضعف كبير في القدرات الفنية و العلمية بالنسبة لأجهزة التخطيط المحلية ( مصالح حكومية ، مكاتب دراسات خاصة ...الخ ) فغالبية المعنيين إما من خارج المجال أو من عديمي الخبرة و أما الخبراء فعلي قلتهم تتلخص خبرتهم في المشاركة في اعداد دراسات وخطط تنموية فاشلة سابقة في موريتانيا .
إن الفشل المتكرر للدراسات و الخطط دفع القيادات السياسية المتعاقبة في كثير من الأحوال الي فقدان الثقة في نتائجه و تجاوزها من خلال تنفيذ مشاريع لم تبرمج في الاستراتيجيات التنموية ـ كما لم تعد توافق علي تخصيص مبالغ كبيرة للتخطيط و لا انتظار الوقت الكافي لاستكماله .
الطريق الي الحل ....مقترحات
أولا : علي المستوي التنظيمي
إنشاء مجلس أعلي أو هيئة عليا للتخطيط مكون من خبراء يتولى وضع رؤية اقتصادية وطنية لخمس او عشر سنوات علي الاقل و من ثم القيام بمراجعة استعجالية لجميع الخطط و السياسات و تقويمها .
ثانيا : تدقيق ومراجعة جميع المعطيات الاحصائية المتوفرة
القيام بإحصاء اقتصادي تصحيحي من اجل تدقيق الاحصاءات السابقة ، و يقترح ان يتم اجراءه من طرف مكتب دولي متخصص بالتعاون مع المركز الوطني للإحصاء . هذا بالإضافة الي تدقيق استعجالي لكافة الاحصائية الموجودة و استكمال المعطيات الغير متوفرة .
ثالثا : علي مستوي تعزيز القدرات الاحصائية
اطلاق خطة استعجاليه لتعزيز قدرات المكتب الوطني للإحصاء و مراجعة المعطيات الاحصائية المتوفرة ،كما انه من المفيد الاستعانة ببعض مكاتب الدراسات العالمية المتخصصة من اجل تدقيق عمل المكتب و احصائياته المختلفة .
رابعا : علي مستوي المخططين
الاستعانة بمكاتب الدراسات العالمية من الصنف الأول خصوصا في الخطط الاقتصادية الكبري و الاشكالية التنموية الرئيسية علي غرار غالبية دول العالم إذ لا تكفي خبرة المكاتب الوطنية و لا خطط المؤسسات الدولية – المتمحورة اساسا حول الاصلاحات الهيكلية - لإحداث الطفرة المطلوبة .
و ختاما
من الواضح جدا القصور الكامن في مختلف السياسات العمومية خلال الفترات السابقة كما انه من المؤكد ان هذه الإختلالات تسببت في ضياع الكثير من المجهودات البشرية و الموارد المادية .
ومهما توفر من ارادة سياسية او تم تكليفه من حكومات تكنوقراطية او اعادة هيكلة وزارات فمن دون خطط سليمة ستضيع كل المجهودات و تهدر كل الموارد .