في إحدى الغابات ظهرت الحاجة الماسة الى اكتتاب فهد للقيام بعمل لا يحسنه إلا الفهود لكن الإشكال الذي حصل هو أن لديهم في الغابة مكان شاغر "معلن" لتوظيف أرنب...
قررت إدارة الغابة إقناع أحد الفهود بالعمل لديها في وظيفة أرنب ... و تحت ضغط الحاجة وافق الفهد و واصل بجد و إخلاص أداء عمله الشاق مع أنه يتلقى في الواقع راتب أرنب!...
و في يوم من الأيام تنامى الى سمع الفهد وجود أرنب في الغابة يشغل منصب فهد و يتقاضى راتبه... تساءل في حيرة: كيف يمكن أن يحدث هذا؟... الأرنب الذي لا قدرات لديه يتقاضى راتب فهد و أنا الفهد القوي أقوم بعملي الشاق و أتقاضى راتب أرنب مسكين!...
حرر الفهد شكوى عاجلة الى رئاسة إدارة الغابة معترضا على كونه يشغل وظيفة أرنب و يتقاضى راتبه الزهيد بينما الأرنب "يحتل" وظيفة فهد و يتقاضى راتبه الكبير مع مخصصات و إمتيازات كبيرة...
قررت الإدارة الموقرة تشكيل لجنة تحقيق عاجلة من السادة النمور للنظر في الشكوى... فموضوع التحقيق يسحق لجنة فنية "أخلاقية" تتمتع بالنزاهة و الخبرة و الحسم... لا يوجد لهذه المهمة أفضل من السادة النمور... وصلت اللجة المكان و باشرت تحقيقاتها على الفور...
استدعت اللجنة الأرنب أولا و سألته: أيها الأرنب هل أنت فهد؟... نعم... أجاب الأرنب بتلعثم و أخرج لهم وثيقته المهنية...
حققت اللجنة و دققت المعلومات المثبتة في الوثيقة ثم قالت بالفعل يبدو أنك فهدا... عندها قاطعهم الفهد-وقد حضر لتوه- قائلا: بل أنا الفهد... نظروا إليه ثم طلبوا أوراقه ... أوراقك الثبوتية أيها السيد!... قدم لهم أوراقه بزهو و إعتزاز فرأوا فيها مكتوباأنه أرنب ... قالوا له عن أي شيء تجادل أيها الفهد الموقر عندما يكون مكتوبا بالخط العريض أنك أرنب!...
أين ذهبت "أخلاقية" و خبرة و مهنية لجنة النمور الموقرة؟... الأمر بسيط و سهل الفهم إذا ما علمنا أن إدارة الغابة الموقرة سعت في كل فرصة الى إكتتاب السادة الحمير في مواقع كان يفترض أن يكتتب فيها نمور.
***
تعيين شخص غير كفء في موقع يتطلب كفاءة يعني أمرين... الأول أننا لا نعول عليه في شيء أي أننا سنباشر إنجاز المهمة بأنفسنا... الثاني أننا لا نهتم بما ستؤول إليه الحال أي أنه يكفينا من ذلك الشخص وجود "شماعة" جيدة نعلق عليها أشلاء فشلنا المحقق.
***
عندما تكون لدينا مهمة نبحث لها عن شخص مناسب للقيام بها فإن الخطوة الأولى هي أن نضع المواصفات التي يجب أن تتوفر لدى شخص ما حتى يقوم بها خير قيام... الخطوة الثانية هي عرض مجموعة من الأشخاص من أهل الخبرة في المجال على تلك المواصفات لننتهي بتكليف أكثرهم إنسجاما معها ... و لن نندم بعد ذلك... إذا تصرفنا بالمعكوس فستكون خسارتنا مضاعفة بالإضافة الى أننا سنكون صيدا ثمينا لسهام نقد كل من هب و دب... نحن بحاجة إلى إعتماد المنهج العلمي في التوظيف و إسناد المهام بدل فعل ذلك على أساس الإنطباع و التقدير غير المؤسس على شيء.
***
إذا أردت تشكيل فريق عمل جاد فابحث عن واحد من إثنين ... الأول شخص يعشق النجاح و هو مستعد لفعل المستحيل من أجل تحقيقه... و الثاني شخص يكره الفشل و هو مستعد لفعل المستحيل من أجل تجنبه ... و لا تبحث عن الثالث و لا تقربنه و إن عرض عليك نفسه مجانا....
زيادة على ذلك لا بد من الخبرة... الخبرة هي نتيجة مزج العلم بالعمل... فلا الشهادات العالية التي لم يخض أصحابها في الحياة كافية لصنع خبير كما أن التخبط في الحياة دون دراسة و لا دراية لن يعطي للمرء خبرة يعتد بها...
***
إنعدام الخبرة لم يكن هو السبب الوحيد في فشل الحكومات السابقة... كانت تلك الحكومات تضم خبرات عالية و قدرات مهنية جيدة لكنها _بالإضافة الى غياب هاجس المحاسبة_ لم تكن تملك أية صلاحيات... لم يكن بإستطاعة أحدهم أن يحرك ساكنا تقريبا إلا بأمر أو توجيه سام... و إن لم يؤمر أو يوجه فيظل واقفا في مكانه دون مبادرة... هذه الحالة يجب أن تتغير حتى يكون لتعيين الخبرات معنى و فائدة و حتى يتميز المجيد عن الكسول و الجاد عن البطال و الناجح عن الخائب.
لا بد إذن من إصلاح إداري جاد تتحدد فيه الصلاحيات في كل المستويات الإدارية ... بعد ذلك يوضع أصحاب الخبرات على المحك و عندئذ _و بعد أن تفعل المحاسبة فعلها_ "لا طاح ألي ما سندو أذراعو"...
***
قال الأمير الشهابي لخادمه يوماً : تميل نفسي إلى أكلة باذنجان .. قال الخادم : الباذنجان!... بارك الله في الباذنجان!... هو سيد المأكولات... شحم بلا لحم... سمك بلا حسك ... ﺩﺟﺎﺝٌ ﺑﻼ ﺇﻋﻮﺟﺎﺝ ... ﻳﺆﻛﻞ ﻣﻘﻠﻴﺎً ﻭﻣﺸﻮﻳﺎ ﻧﻴﺌﺎً ﻭﻃﺎﺯﺟﺎ و ﺑﺎﺭﺩﺍً ﻭ ﺳﺎﺧﻴﻨﺎ... ﻭﺟﺒﺔً ﻛﺎﻣﻠﻪ ﺍﻭ ﻣﺪﺧﻨﺎً ﻟﻠﻄﻌﺎﻡ.
قال الأمير : ولكني أكلت منه مرة فنالني كَرْب..
فقال الخادم : الباذنجان!... لعنة الله على الباذنجان!... إﻧﻪ ﺛﻘﻴﻞٌ ﻏﻠﻴﻆٌ ﻧﻔﺎﺥ ﺣﻠﻮﻩ ﻣُﺮ ﻭ ﻣُﺮﻩ ﻋﻠﻘﻢ و ﺳﺎﺧِﻨﻪ ﻣُﻨﻔﺮ و ﺑﺎﺭﺩﻩ ﻣُﻘﺰﺯ .
قال الأمير : ويحك!... تمدح الشيء وتذمُّه في الوقت نفسه؟!... فقال الخادم: نعم !... أنا خادم للأمير يا مولاي و لست خادم للباذنجان ...إذا قال الأمير "نعم" قلت "نعم"... وإذا قال "لا" قلت "لا "...
***
منذ بعض الوقت و "الباذنجانيون" يتكاثرون في مؤسساتنا تكاثر الحشائش الضارة التي تنموا و تنتشر في كل مكان دون أن يزرعها أو يخدمها أحد!... و مازالت سياسة "الغابة" تفعل فعلها في إفساد الحياة في هذا البلد... السياسة المتمثلة في الصعود الصاروخي غير المستحق لعدمي الخبرات و الكفاءات من ناحية و الزج بأصحاب الكفاءات و الخبرات أسفل سافلين من ناحية أخرى ... لقد جعلت هذه السياسة من الخبرة و الكفاءة و الشهادة أضحوكة الناس و محلا لتندرهم و موضوعا خصبا لسخريتهم.
***
نصحت ذات يوم أحد الإخوة بضرورة مواصلة دراسته حتى يحصل على شهادة الدكتورا ... كان جوابه حزينا: هل تريدنى أن أخسر من حياتي سنوات إضافية؟... ثم قال ما فائدة شهادات فلان _و سمى لي دكتورا نعرفه_ إنه يعمل تحت إمرة فلان الذي لم يدرس بعد الباكولوريا إلا أربع سنوات بينما هو درس بعدها عشر سنوات و تخرج بإمتياز... ألا ترون أن هذه النظرة هي التي تحطم التمدرس و تزهّد الناس في التعليم.
***
لا سبيل لإصلاح ما لم يتم تطهير مؤسسات الدولة من "الباذنجانيين" المتواجدين في كل مؤسسة محيطين _إحاطة السوار بالمعصم_ بالمسؤولين من الجهات الأربع ... كما أنه لا أمل في تصحيح و لا إصلاح ما لم تتغير ثقافة "الغابة" في تهميش و إزدراء أصحاب الكفاءات و الخبرات و الشهادات ...
***
أخيرا... هذه الخواطر _حتى لا يذهب بنا أحد مذهبا يخصه_ لا تعني هيئة بعينها و مؤسسة بذاتها... و من أراد تنزيلها على حالة يراها فليفعل ذلك على مسؤوليته الخاصة ... و خير الكلام ما قلّ و دلّ.
د. محمد محمود سيدينا