ولمواجهة هذه المدنية يجب علينا ابتكار نماذج جديدة للتغيير تنسجم مع عقيدتنا، وأهدافنا، وعقلنا الجمعي الإيجابي، وتستوعب طبيعة التحديات المتصاعدة لأن الحياة في المدينة تشهد تزاحما كبيرا، مما يضيق المساحة التي يشغلها كل فرد، وكل أسرة، وهذا يتطلب اكتشاف الغير وتقبله، والاعتراف بوجود الاختلاف بين الناس، واحترام نمط حياة الآخرين، ومن ثم اعتبار القيود الاجتماعية شيئا نسبيا، مع أهمية تعلم التعايش والتكيف والتسامح...
إن الزحام الذي يشتد في المدن يوما بعد يوم، يثير الكثير من المشاعر العدوانية، ومشاعر الضيق والتذمر من جراء الشعور باقتحام المجال الخاص الذي يرسمه كل واحد لنفسه في ثقافة لفريك المتعودة على أطناب الخيمة,التي تحدد الكثير من سلوكياتنا فمثلا للحصر: مسألة الاستئذان والتي هي سلوك مدنيي وشرعيي مازلنا حتى الآن لا نعطيها أي اهتمام حتى وإن إعترضتنا جدران الاسمنت,,وكذالك مظهر الخيمة البدوي الحضري...
وهكذا فالرؤية المتعددة، توفر نوعا من التوازن العقلي والشعوري، وتحسين سوية المقارنة، مما يعبد الطريق في النهاية نحو التنمية المتكاملة...
وإذا كان لفريك هو الحاضن لثقافة المجتمع الموريتاني جغرافيا, فان القبيلة هي روح وأساس هذه الثقافة. لكن على ماذا تتأسس العواطف القبلية عموما؟
يعرف ابن خلدون العصبية القبلية بأنها (الالتحام بالنسب) محللا مفهوم النسب بأنه مجرد معتقد قد يكون وهميا, إلا أن الظروف الطبيعية لنحلة المعاش البدوي تجعله أمرا قادرا على إثارة الحمية وتوحيد المشاعر أمام الأخطار الخارجية خصوصا.
غير أن المميز الأساسي للالتحام بالنسب هو قيام هذا المعتقد على معنى " اشتراكي" كما يرى الخبير الاجتماعي محمد محمود ولد سيد يحي يقضى بالتساوي النظري لجميع أبناء القبيلة لأنهم جميعا ينحدرون من أصل واحد.على حد تعبيره...
ولهذا يقول ابن خلدون إن القبائل في بيئتها البدوية لا تعرف سلطة حاكم حقيقي ينفرد بالمجد عن أفراد قبيلته ويقهرهم بأحكامه وإنما يكون هنالك رؤساء تطبعهم روح أبوية أكثر منها سلطوية. يشرفون على تنظيم القبيلة في حالة الغزو ورد الاعتداء, ولا ينفردون برأي دون مشورة بقية مشايخ المجلس القبلي.
غير أننا لم نتوقع أن تستمر القيم القبلية فاعلة في سياق سياسي آخر لا يعرف المساواة ويقوم على ( التباين والتدرج الاجتماعي ) كما أسلفنا.
وهو ما نشاهده اليوم واقعا, في ظل الدولة.
والسؤال الذي يطرح نفسه لماذا لم تتأثر القبيلة بالنهج المغاير السابق؟؟
يرى ابن خلدون المعتمد على واقعه الاجتماعي الذي عاش مرحلة مشابهة اندمجت فيها المجتمعات البدوية الهلالية بالحواضر السياسية المغربية محاولة إقامة دولة على أساس عصبي.
أن القبيلة بمجرد اندماجها بالسلطة السياسية القائمة على الهرمية تفقدها طابعها الاشتراكي , ويبدأ السلطان بالتميز عن باقي أهل عصبته ,وينفرد بالمجد دونهم , مما يقضى عليه بأن يخسرهم .ومن ثم تتفكك العصبية في الجيل الثاني لكي تترك مكانها لعصبية صاعدة...
إلا أن هذه البداوة ريفية ذات ثقافة مقيدة بينما بداوتنا صحراوية ثقافتها غير محدودة..‼
ولعل هذا هو السبب وراء استمرار الوظيفة السياسية للقبيلة في ظل الدولة الحديثة التي تتميز بالتباين والتخصص والطبقية والبيروقراطية.. ؟‼
إن المسلم الذي يجد بلاده متخلفة تقنيا، دون وجود أية بارقة أمل لسد الفجوة بينها وبين البلدان المتقدمة، سوف يسحب ثقته من ثقافته، ويتحول إلى شحاذ ثقافي يستجدي على أبواب الآخرين للأفكار والمفاهيم والنظم التي تملأ الفراغ، الذي خلفته ثقافته المنهارة.
حين تعتل الثقافة، تفقد انسجامها الداخلي، وتتحول كل منظمومة فيها إلى أداة لهدم المنظومات الأخرى.
فالعلم آنذاك، لا يعزز الأخلاق بل يهدمها، والتقدم الاقتصادي، لا يحقق العدل والمساواة، بل يقصيهما، والتلاحم الأهلي، لا يغدوا مصدرا للشعور بالأمان، بل يتحول إلى عبء يثقل كاهل أصحابه وهكذا...
ومهما ارتفعت أصواتنا ومناداتنا بقيمة ثقافتنا وتراثنا وديننا وضرورة محافظتنا عليه. إيمانا منا بمقاومتها لتلك الثقافة الأجنبية، فإن الناس سيمضون في طريقهم إلى تقديس الثقافات المتفوقة على حساب ثقافتنا، بشكلها الحالي. إذ أن روح عصرنا تمجد القوة بأوسع معانيها، وتنجذب إلى التفوق على مقدار ما تستهين بالثقافات التي تحاول أن تستمد مشروعيتها من غير هذا الباب.
ليس أمامنا من طريق لاستعادة الثقة بثقافتنا، والكف عن الاستجداء الثقافي سوى التوصل.إلى طريقة ننهي بها التناقضات الداخلية في ثقافتنا الحاضرة، ونخلصها من الشوائب التي أقعدتها عن أداء وظيفتها في الريادة الحضارية.
ولن يكون ذلك كافيا ما لم تتحسن سيطرتنا على البيئة التي نعيش فيها، من خلال الارتقاء بنوعية الحياة لمعظم أبناء الأمة.
وهذا ما يتطلب منا البحث عن جذور هذه الثقافة, التي يتمسك بها الموريتاني, ومحاولة التعرف على فلسفتها, التي يبدوا أنه يوظفها في كل شيء ضاربا عرض الحائط بكل التصورات الأخرى التي تناقضها بكل عزم وقوة. وذالك بإرجاعها للواقع الموازي للصحراء.. ونظرا لكثرة المفاهيم المستعملة في التحليل والمفتقرة إلى التعريف، تبقى الاجتهادات والملاحظات الشخصية سيدة الموقف..
في هذه الحالة سنخرج من المدينة مؤقتا باتجاه البادية " لفريك" أو' لكصر' كمرجع نستقى منه ثقافتنا وفى خطوة غير مسبوقة سنعتمد على الكلمة لفك رموز هذه الثقافة..
من هنا تتعقد وتتشابك المواضيع ويصبح دور اللغة حاسما في تعيين الطريق التي علينا أن نسلكها إلى القصد..يتواصل...