يشغل مجال صناعة الحديد والصلب اهتمام الباحثين والمختصين يوما بعد يوم لما له من أهمية أساسية في نمو الاقتصاد العالمي، وارتباطه الوثيق بالتنمية. خام الحديد المادة التي كانت أسعارها لا تتجاوز 2.5 دولارا للطن، وشبه غائبة تقريبا عن التجارة العالمية لنصف قرن منذ 1900 حتى 1945 حافظت على ارتفاع طفيف وببطئ في نصف القرن الثاني، حيث ارتفعت أسعارها إلى 10 دولارا للطن مع نهاية 1970م،وبقيت في حدود 30 دولارا للطن حتى سنة 2004م. لكن العشرية الأخيرة شهدت تغيرات دراماتيكية طالت حجم الطلب العالمي على هذه المادة، وأسعارها،وهذا ما أكسب سوق المادة الأولية لهذه الصناعة (خام الحديد) أهمية استثنائية،وجعل من وضعيته عاملا أساسيا وحاسما في مصير مئات الشركات، وربما البلدان.
(1)
الصعود الصيني وأزمة انهيار الأسعار
مع بداية القرن الواحد والعشرين بدأ مركز الاقتصاد العالمي يتحول من الغرب إلى الشرق بسبب النمو المتسارع للاقتصاد الصيني في ظل تخلي الدول الغربية وأمريكا عن الصناعت الثقيلة لصالح صناعة الخدمات، والصناعات التكنولوجية المتطورة؛ مما حول الصين إلى مصنع للعالم، وقاد إلى خلق فترة غير مسبوقة من النمو المتسارع في السوق العالمي لخامات الحديد خاصة السوق الصيني، الذي أصبح يستحوذ على أكثر من 70% من حجم التجارة العالمية لخامات الحديد المنقولة عبر البحار،وتشير البيانات إلى أن حجم واردات الصين من خامات الحديد تضاعف ثلاثة مرات تقريبا خلال العشرة سنوات الأخيرة،حيث قفز من حوالي380 مليون طن سنة 2007م إلى 1.075 مليار طن سنة 2017 م،ويعد هذا التنامي المتسارع للطلب الصيني هو السبب المباشر وراء تحويل خام الحديد إلي سلعة استراتيجية في سوق السلع العالمي.
تحول مركز الاستهلاك العالمي لخامات الحديد إلى الصين سمح لها بأن تتربع على رأس قائمة دول العالم في كل ما يتعلق بهذه الصناعة؛ مما ولد لديها سعيا حثيثا إلى تعزيز تأثيرها على عملية تسعير المادة الخام، وهو ما قاد في مايو -2009م إلى مفاوضات فاشلة بينها والثلاثة المصدرين الكبار آنذاك (فالي ، ريو تينتو، بي.اتش.بي)، و شكل دافعا قويا لظهور نظام عالمي جديد للتسعير، حيث تم الاستغناء عن نظام التسعير السنوي التقليدي الذي كان متبعا منذ فترة الستينات من القرن الماضي، والذي كان يتميز بعقود طويلة الأجل مع استقرار عام في الأسعار، وتم استبداله سنة 2010 بنظام جديد يعتمد على العقود القصيرة الأجل، وأسعار الصفقات الفورية.
وقد أدى تغيير نظام تسعير المادة الخام إلى مضاربات وحرب أسعار شرسة أدت إلى أكبر طفرة عالمية في ازدهار أسعار خامات الحديد في التاريخ خلال الفترة ما بين يونيو 2009 حتى أغسطس 2014، وهو مابات يعرف بالفترة الذهبية للأسعار؛وهذا ما قاد في نهاية المطاف الأربعة الكبار إلى إغراق السوق الصيني بالمادة الخام بغية إخراج مناجمها عالية تكلفة من المنافسة، وكذلك قطع الطريق أمامها في امتلاك مناجم خارجية خاصة في أفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وقد أدت حرب إغراق السوق الصيني إلى تخمة في المعروض عالميا ضغطت على الأسعار حتى انهارت وانخفضت إلى 39 دولارا للطن مطلع 2015 و أدت إلى ما أصبح يعرف بأزمة انهيار أسعار خامات الحديد.
(2)
أزمة انهيار الأسعار وتقلص إيرادات الدول المصدرة
الفترة الذهبية للأسعار التي تمثلت بارتفاعها إلى مستويات قياسية غير مسبوقة، والتي استمرت حوالي خمسة سنوات أدت إلى إيرادات مالية ضخمة للدول المنتجة لخام الحديد، وأرباح خيالية لشركات التعدين، وانعكست إيجابيا على معدلات النمو الاقتصادي لهذه الدول، لكن هذه الطفرة في الأسعار سرعان ما تلاشت وقد مرت بلادنا ومعها الدول المصدرة لخام الحديد بمرحلة صعبة جدا، حيث أدى التراجع الحاد في أسعار المادة الخام إلى تقلص إيرادات هذه الدول جميعها بنسب مختلفة،وخلق أزمة مركبة قضت على حوالي 40 شركة من الشركات المصدرة للخامات إلى السوق الصيني الأكبر عالميا، ولاتزال تداعيات أزمة انهيار الأسعار وتبعاتها مستمرة حتى الآن، وتلقي بظلالها على الأوضاع المالية لهذه الدول.
ومقارنة بسيطة بين إيرادات هذه الدول من صادراتها لخامات الحديد إلى الصين (أكبر مستورد للمادة الخام) لسنة 2013م مع سنة 2017 تكشف حجم هذا التقلص الهائل،ونكتفي هنا بذكربعض هذه الدول على سبيل المثال لا الحصر:جنوب إفريقيا تقلصت قيمة خاماتها المصدرة إلى الصين لسنة 2017 بنسبة 41.8 % عما كانت عليه سنة 2013 لتصل إلى حوالي 3.5 ملياردولار، و سيراليون 260.8 مليون دولار بانخفاض بنسبة 81.2 % ،و كندا 563.2 مليون دولار بانخفاض بنسبة 73.5 % ،و روسيا 384.1 مليون دولار بانخفاض بنسبة 72.9 %.
(3)
شركة "اسنيم" وأزمة انهيار الأسعار
مما لا شك فيه أن انخفاض الأسعار الذي هو أمر خارج عن إرادة شركة اسنيم و موريتانيا من ورائها كما بينا أعلاه قد أدى إلى تقليص مساهمة اسنيم في ميزان المدفوعات؛وهذا ما قد يكون وراء ارغام الدولة على زيادة الاقتراض والمديونية الخارجية لتفادي عجز الموازنة، فقد بلغت قيمة خامات بلادنا المصدرة إلى الصين مثلا لسنة 2017 حوالي 479.6 مليون دولار بانخفاض بنسبة 58.8 % عما كانت عليه سنة 2013 (1.161 مليار دولار)،وحسب التقارير المالية للبنك المركزي الموريتاني فإن مساهمة عائدات الحديد في ميزان المدفوعات قد انخفضت من 1.358 مليار دولار سنة 2013 إلى 340 مليون دولار فقط سنة 2015 و 418 مليون دولار سنة 2016، وتشير تصريحات منسوبة لوزير الاقتصاد والمالية إلى توقعات بعدم مساهمة شركة اسنيم في ميزانية 2019م،هذا على مستوى مساهمة الشركة في الميزانية الوطنية.
أما على مستوى الشركة نفسها فقد أدت الأزمة إلى شلل شبه تام في المشاريع الجديدة التي قيل إنها تستهدف زيادة الإنتاج، وتحسين القدرة التنافسية،مثل مشروع الميناء المعدني الجديد الذي تم تدشينه في 25 يونيو2013،و مشروع "القلب 2" الذي كان من المفترض أن يرفع من قدرة الشركة الإنتاجية بحوالي 30%، كما أدت الأزمة إلى تخفيض المبالغ المالية المرصودة للصيانة، و تحسين ظروف العمال، وهذا ما أشعل موجة من السخط بين العمال أدت إلى إضرابات متكررة ؛مما انعكس سلبا على حجم الإنتاج،الذي تناقص من 13 مليون طن سنويا إلى حوالي 11.5 مليون طن.
 لكن رغم ذلك كله، و رغم أزمة انهيار الأسعار التي قضت على العديد من الشركات كما ذكرنا أعلاه، ورغم التعيينات السياسية، وتبادل المناصب، و "أكثر من 70 مليار أوقية قيل أن الشركة صرفتها على مشاريع غير مجدية خارج اختصاصها المعدني"، ورغم أيضا "ديونها الخارجية والداخلية، التي قيل أنها وصلت العام الماضي إلى مبلغ 257 مليار أوقية" رغم هذا كله وغيره بقيت شركة اسنيم ولله الحمد راسخة رسوخ جبل امهاودات، وثقيلة في السوق الدولية لخامات الحديد ثقل ما يحويه هذا الجبل من حديد، فقد حافظت الشركة على مكانتها عالميا، وإفريقيا، وعربيا فشركة " اسنيم" لا تزال الأولى عربيا ،والثانية افريقيا، و 12 عالميا في تصدير خامات الحديد، وتحتل المركز التاسع من بين المصدرين للصين، بل أكثر من ذلك فقد تكون شركة اسنيم من بين شركات التعدين القلائل في العالم الذين حققوا نجاحا باهرا أثناء الأزمة بحفاظهم على رأس المال البشري، الذي يعتبر رأس مال لا ينضب، وعلى حد علمي شركة انسيم هي الشركة الوحيدة في افريقيا في مجال تعدين الحديد التي رغم الضغوط المالية الهائلة لم تسرح عاملا واحدا من عمالها بسبب الأزمة، وحسب التقارير السنوية الصادرة عن الشركة كان عدد عمالها سنة 2013م 6331 عامل وارتفع العدد إلى 7263 عاملا لسنة 2016م.
قد تكون شركة اسنيم أخطأت في عدم ملائمة خططها في زيادة الإنتاج والفترة الذهبية للأسعار لكنها ليست الوحيدة في ذلك، وقد يكون تعاطيها مع أزمة انهيار الأسعار كان متأخر جدا، ودون المطلوب، وتشوبه بعض الارتباكات لكنها لم "تغرق" ولن تغرق كما أن مشاركتها في مشاريع مثل إنشاء المطارات والفنادق ليست سابقة لدى شركات التعدين العالمية، ومع ذلك نسجل أنه على صانعي السياسة الاقتصادية في بلادنا أن يضعوا من ضمن أولوياتهم في المرحلة القادمة تطوير آليات جديدة للبحث عن عائدات مستديمة بدل الاعتماد شبه الكامل على عائدات الصناعة الاستخراجية المرتبطة بسوق دولية لا ترحم خاصة العائدات من طرف شركة اسنيم.
د. يربان الحسين الخراشي