عدت ذات مساء من مساءات سنة 2000 الى البيت بعد يوم عمل شاق لأجد أحدهم قد ترك لي بطاقة إنتساب للحزب الحاكم حينها... الحزب الجمهوري...
قلّبت البطاقة جيدا لأتأكد أن الأمر لا يتعلق بخطأ ما...
وجدت الإسم كاملا و صحيحا و بقية المعلومات دقيقة بما فيه الكفاية! ...
إذن أنا أمام خبر كوني مناضلا و عضوا بارزا في أهم حزب في البلاد ...
الحزب الذي يترأسه رئيس الجمهورية و يقود البلاد و العباد الى مصاف الدول العظيمة و الأمم الراقية...
هذا شرف العظيم بحق! ...
وجه الطرافة في الأمر أن ذلك حدث بدون علم مني و لا تدبير ليبدو و كأنه مفاجأة سارة قدمها لي ذلك الشخص الذي رتب أمر بطاقة الانتساب تلك.
بعد 18 سنة من تلك الحادثة تلقيت دعوة كريمة يدعون فيها العبد الفقير -مشكورين- لحضور لقاء أطر الولاية مع فخامة رئيس الجمهورية...
إنه شرف عظيم –أيضا- أن يدعوك أحدهم للقاء فخامته و أن يكون ذلك ضمن كوكبة ممن يصطلحون على تسميتهم بالأطر و الوجهاء!...
المفاجأة في هذه المرة هي أنني وجدت نفسي -ضمن آخرين- مضطرا لابتلاع خبر يتعلق بكوني مناضلا في صفوف الحزب الحاكم...
و أنني ملزم بدعم خيارات الحزب بدون قيد أو شرط لأن ذلك بكل بساطة هو مقتضى الانضباط الحزبي أو لا يكون!...
حسانا...
لكن ثمة مساحة فارغة مؤلمة في ذاكرتي تجعل من الصعب علي تذكر تاريخ انتسابي لذلك الحزب المحترم تماما كقصة انتسابي للحزب الجمهوري المحترم أيضا.
ليست لدي مشكلة مع الحزب الحاكم و لا مع أي حزب آخر فكثير من منتسبي هذا الحزب"المفترضين" هم أحبتي و أصدقائي و زملائي أكن لهم كل الاحترام و أحفظ لهم كل التقدير...
كلما ما في الأمر هو أنني لم أفهم سبب تواجدي بين مناضليه الأشاوس في يوم عاصف حافل بالتوجيهات و الأوامر الحزبية تماما كما لم أفهم قصة انتسابي للحزب الجمهوري سالفة الذكر...
ثمة ثقافة متجذرة في هذا البلد ...
تقول هذه الثقافة : "إن الدولة هي الحزب الحاكم و إن الحزب الحاكم هو الدولة"...
لا تترك هذه الثقافة مساحة يتمدد فيه أولئك الذين لا رغبة لديهم في الإنتماء الحزبي...
على هؤلاء إذن أن يتعايشوا مع هذه الثقافة و ليس لهم خيار آخر...
إنه أمر الواقع....
أعتقد أن الوقت قد حان لتجاوز هذه الثقافة القديمة و إحلال ثقافة أخرى محلها تفيد بأن ثمة أطرا في مختلف مؤسسات و قطاعات الدولة مخلصون لبلدهم أوفياء لدولتهم و رموزها -بما في ذلك رئيس الجمهورية- و أن وفاء هؤلاء لا يقاس عبر بطاقات الانتساب المفترضة للحزب الحاكم أو لأي حزب آخر و على المعنيين أن يتقبلوا هؤلاء و يعلموا أنهم ليسوا ضد أحد بل هم رصيد و سند لكل أحد...
و أعتقد -أيضا- أن المستفيد الأول من القضاء على تلك الثقافة البالية هو الحزب الحاكم نفسه و الدولة من بعده إذ ليست ثمة فائدة ترجى من تجميع الناس في أطر حزبية لم يستشاروا بشأنها و ليست لهم قناعة بضرورة تواجدهم فيها...
ثم إن هذه الثقافة البالية – و هنا مكمن الداء- هي البيئة المثالية التي ينبت فيها النفاق إذا فهمنا أنه إظهار المرء خلاف ما يبطن...
تلك هي خلاصة المقالة و خير الكلام ما قل و دل...
د. محمد محمود سيدينا.