وإن كانت هذه الاجتهادات قد أدت دورا تاريخيا معينا، فقد تعداها مد العلم والثقافة، ومن الخطأ أن نظن أن أخبار السلف هدف ثقافي يقصد لذاته كمتعة عقلية، دون أن يكون وراء ذلك مشروع إنهاض، وخطة توعية من أجل صنع الحاضر، والتأثير في الأجيال القادمة.
حسب هؤلاء السلف أنهم كانوا أمثلة مسهمة في صنع عصرهم، وتوجيه معاصريهم، من خلال إهتمامهم بالوقائع والمستجدات، مما جعلهم يسعون إلى تكييف العلوم والمعارف مع مجتمعهم وحياة أناسهم، فسايروا بذلك مختلف الأحداث، مستجيبين للبيئة وخصوصياتها فردوا على أهم الإشكالات التي وردت عليهم فكانوا كلما استفتوا عن النوازل افتوا وأفهموا وبينوا.
فهل سنعتمد على تراثنا ونتفهم ما فيه ونحسن التعامل معه، ليس بحثا فقط وإنما تطبيقا وتجسيدا لننشأ حداثة مبنية على أصالة، ومعاصرة مبني على تراث؟؟
إن أي إصلاح لم يبدأ بتشخيص واقع الشعوب لن يأتي بنتيجة, صحيح أن الذين يمارسون النقد يلقون الكثير من المشكلات مما دفع جل الناس إلى إيثار الصمت، و تجاوزه بعضهم إلى تزيين الخطأ وتلميعه، مما جعل المشكلات تتراكم، وتفرخ، وتصبح أشبه بأوبئة مستوطنة.
غير أن أهمية النقد تكمن في أننا بشر نصيب ونخطئ، والجميع يعترف بذلك، لكن سلوكنا لا يترجم ذلك الإعتراف. نحن لا ننكر أنه حدثت محاولات للتأثير على مجتمعنا خاصة في الفترة الأخيرة, فقد حدثت لقاءات ومشاورات لكننا نأخذ عليها أنها كانت متسرعة وغير مدروسة.
لأن الحرية المطلقة مفسدة مطلقة. ولسنا هنا ضد حرية الإعلام فهذا مما نرتاح له ويثلج صدورنا لكن ينبغي أن يكون كل شيء بمقدار فيجب أن نؤمن أولا بمفهوم الدولة وأن يكون لها حرمتها واحترامها إيمانا منا بقوة القانون الذي هو فوق الجميع, خاصة في مجتمع ما زال العرف يقف بكل فئاته حارسا على قيمه وأعرافه، وهو مستعد لإقصاء من يخرج عليه ونبذه، ولذا فإن من المصادر الأساسية لمقاومة التغيير الخوف من الابتعاد عن القوانين التي يبنيها المجتمع. ولو كانت على حساب الشرع والمدنية الحديثة...
مع أن مجتمع الغزو الذي قامت عليه" بادية السيبة "الموريتانية هو الذي أوجد سلطة هشة ومتقلبة لأمراء حسان الذين كانوا يجمعون الإتاوات من الفئات التي يحمونها، ولاشك في أن هذه الطبيعة السائبة وإنعدام الأمن وجو البحث عن الحماية هي التي جعلت من القبيلة الموريتانية بناءا تدريجيا بين الصرحاء والخلفاء والغارمين والفئات الخدمية..
وهذا مايستوجب ضرورة مراجعة تراثنا الشنقيطى من جديد وتنقيته مما علق به من ثقافة (لفريك) وتكيفه مع الوقائع والمستجدات بلغة العصر وطموحه.
وفي غياب هذا الإجراء في الوقت الحالي على الأقل فان ثقافتنا ستظل ثقافة الماضي الأعزل في زمن أخص خصائصه التطور العلمي والتقني "القائمان على السببية العلمية، والإرادة الإنسانية الفاعلة!!.
لقد أصبح سيئا للغاية أن ينطق رجل الدين أمام الناس..أو أمام الطلاب بقضايا متقادمة، قال بها الأولون، دون أن يحاول مزج المعرفة التقليدية للجديد.. وأكثر ما تتجلى هذه المعرفة التقليدية في علم التوحيد أو الكلام أو مباحث العقيدة على اختلاف المصطلحات. حيث يصر بعض الأساتذة على حكاية النزاع بين المعتزلة وأهل السنة، والفرق بين الأشاعرة والماتريديه، ووجهة نظر الشيعة والخوارج، والخلاف بين الجبرية، وغيرهم وتناقض بين العقل والنقل وتساندهما.
وكل هذا يدور في حلقة مفرغة، بعيدة عن تفكير الشباب المتحول، لأن هذا الكلام قد أدى وظيفته على خير وجه، حين كان جزء من صراع عصرهم حول المفاهيم والقيم، فلما مضى عصره أصبح جزءا من تاريخ الفكر، لا أساسا من أساس النقاش الحي النابع من التجربة المعاشة. ولذلك يعجز هذا الكلام من إقناع ملحد، حديث بخطئه، لأن أسباب إلحاده ليست من موضوعات الكلام، فالجدل الحديث لا يناقش حول الجوهر والعرض، ولا حول القدم والحدوث، وإنما هو يناقش حول حتمية المادة، ووجود المادة الواقعية والمادة العقلية، والعلاقة بين المادة والحركة، حيث ينتهي كل موجود مادي في حقيقة إلى حركة، والاحتمالات الرياضية لتأثير الصدفة في نشأة الكون، وامتداده، وحتمية التطور. وحقيقة الوجود في ضوء الإدراك الجديد لنسبية الظواهر الكونية وأهمها الزمان، ذالك البعد الرابع الذي كشفه، اينشتاين...
ولقد أصبح من الضروري على علمائنا وفقهائنا ،إعادة النظر في جميع الأحكام الشرعية السابقة، المبنية على حقائق لم تعد مسلمة ليبينوا للناس أمور دينهم، وينبذوا منها ما ليس له رصيد من هداية الله في مجتمع يحرص على تبرير سلوكياته في إطار التشريع الإسلامي، رغم أن أكثرية تلك السلوكيات لا تمت للإسلام بصلة ..
هذا وبتشخيص هذه المفاهيم التي هي جزء من ثقافتنا نرى أن الطائفتان:الزوايا وحسان كانتا تعيشان نوعا من الحرب الخفية التي تغذيها فتاوى شرعية مرحلية يجب أن تراجع مثل قضايا التكفير والتحريم والتفسيق والتبديع حتى لاتكون أساسا لفرقة جماعة واحدة تجمعها العقيدة والأحكام الشرعية..
ولا تزال إلى يوم الناس هذا تظهر من حين لآخر في قضايا الزواج والمعاملات..!! ولكن بطرق خفية محترسة!؟, في ظل غياب اجتهاد جديد من علماء الأمة, الذين يبدوا أنهم وصلوا إلى مرحلة من الوهن والعزوف عن التحصيل المعرفي لما يتطلبه من جهود مضنية, مكتفين بالاجتهادات والفتاوى الجاهزة, المأخوذة عن السلف, رغم تغير الزمان والمكان وما ينجر عن هذا التغير في الوسائل والأحوال !!.
لذا نأمل من فقهائنا المعاصرين, بأن يأخذوا من السلف اجتهادهم في صنع عصرهم, من خلال اهتمامهم بالوقائع والمستجدات, حتى يبدعوا لنا ثقافة تستجيب لمتطلبات عصرنا وطموحنا وأن لا نظل ثقافة الماضي الأعزل ونحن نعيش في عالم الدول والأمم والقارات.
لاشك أن الشعب الموريتاني أصبح منذ قرون موجد اللهجة والتاريخ, إلا أن آثار الحدث الكبير الذي أسس لتلك الوحدة لا يزال ينعكس في اللغة التي نتكلم بها فما هو هذا الحدث؟ يرى المؤرخون أن هذا الحدث يرجع إلى أيام هجرة القبائل العربية(27) إلى هذه الديار حيث ستشهد هذه المنطقة الكثير من الحروب كان من أهمها حرب شربب التي حاول بعض المؤرخين أن يعطوها مبررات وتأويلات دينية فان الأمر اليوم لم يعد يعرف هذا النوع من التمايز والتراشق بالألقاب الدينية فأنت في مجتمع من كانوا يقال أنهم يحملون لواء الإسلام قد تجد فيهم مسلكيات يأباها الشرع وفي نفس الوقت تجد في الجانب الآخر من يتميزون بسلوك إسلامي نادر أمثال: محمد لحبيب وأحمد ولد أمحمد... على سبيل المثال للحصر...
وعلى هذا الأساس فان جميع الفتاوى الصادرة عن الجيل الحديث المبنية على تصورات فكرية مغلوطة أو موهومة يجب أن تبنى على مسلمات مقبولة وهذا مايقتضي فتح مدرسة جديدة لمراجعة التصورات والتصديقات والفتاوى المبنية على ذالك...
قد يقول قائل أن هذا ارتكاس ورجعة بل يقول البعض أنه تحطيم لما وضعه جيل فقهائنا الراحلين واليسمحلي الجميع بأن أراجع مسلمة عند الجميع ومقبولة عندهم وهي أن الرجوع إلى الحق أحق ولا مكانة للأقدمية إذا كانت ضعيفة كما لاعار في المستحدثات إذا كانت قائمة على مسلمات وهنا نقف على عتبة التجديد الشجاعة القائمة على مراجعة معارفنا لنفض عنها الغبار ولنضعها في موازن الصدق حتى يتبين الحق والله ولي التوفيق..
قد يقال أننا لسنا أهلا لهذه المهمة وأن تعرضنا للخطأ أكثر من تعرضنا بالإصابة وأن تمسكنا بما تعرف عليه جيلنا الأول قد يكون أفضل وأقرب إلى الصواب من هذه الدعوة التي ستتعرض لمختلف الفلسفات والشكوك والأغلاط في زمن اختلطت فيه الأوراق والمفاهيم وأشتبه الحق بالباطل والله ولي التوفيق..
والجدير بالذكر أن هذه الحرب التي تسمى حرب (شربب) وقعت بين ارستقراطية "الزوايا" وارستقراطية العرب "حسان" وهي حسب تعبير محمد المختار ولد السعد كانت من حيث الجوهر "صراعا طبقيا" على المصالح المادية والسياسية بين قطبي الزعامة في مجتمع "البيظان" لعب فيه العامل الديني دورا هاما جدا لا كسلاح " إيديولوجي" فقط وإنما كمفهوم عقائدي ونظرة سياسية للعالم والذي تقصده هنا هو الطرف المهزوم الذي يعتبر المنتج الفعلي للعلم، والقائم على الدين والذي إنصرف إلى مناطق نفوذ أخرى عله يجد فيها ما يغطي ذلك العجز الذي عرفه.
وقد برر وقوى هذا المنهج مايعرف بظهور بعض الخوارق أو النكبات التي قد يتعرض لها بعض هؤلاء أو أولائك مع أننا نؤمن بوجود الكرامة لكننا نتحفظ عندما نتحدث عنها..
لفد انتشرت ظاهرة الخوارق وتداولها الناس رواية وإنشاء، بل ألفت كتب كثيرة ،في كرامات وخوارق أولياء وصالحي هذه المجموعة، وما ذاك إلا إشهارا لا وعيا لسلاح آخر كان له بالفعل دوره في معادلة السلطة السياسية وفى التأثير على واقع الناس المعاش فيه. كما أن انتشار علم الأسرار، والأوقاف، وعلومه