هذه الطريقة العقلية التي أقرها العلم الحديث لم يستفد منها نتيجة لمنطلقه الخاطئ الذي ينكر أن لهذا العالم خالقا خلقه من عدم.
وانطلاقا من هذا المنطلق الكمي الذي لا يؤمن بخالق هذا الوجود المفطور فإننا نجدهم حين حاولوا ربط الواقع بالدماغ للوصول إلى الفكر أي الإيجاد التفكير ضلوا الطريق، فجعلوا الربط بينهما هو انعكاس هذا الواقع على الدماغ فخرجوا بالنتيجة الخطأ في معرفة العقل، ولذلك عرفوا العقل تعريفا خاطئا. وسبب ذلك هو إصرارهم على إنكار أن للوجود خالقا خلقه من عدم. لأنهم لو قالوا إن المعرفة تسبق الفكر فإنهم يقفون أمام حقيقة واقعة، وهي أنه من أين جاء الفكر قبل وجود الواقع؟
فلا بد أن يكون قد جاء من غير الواقع. وبالتالي من أين جاء الفكر للإنسان الأول ؟
لابد أنه جاءه من غيره ومن غير الواقع فيكون الإنسان الأول والواقع، قد أوجدهما من أعطى الإنسان الأول المعرفة، وهذا خلاف ما لديهم من معرفة جازمة بأن العالم أزلي، ولذلك قالوا إن انعكاس الواقع على الدماغ هو العقل، فهو الذي أوجد الفكر، وهو الذي وجد به التفكير ولكن يبقى عنصر ضروري وهو المعرفة(12).
لقد تهربوا من ضرورة إيجاد المعرفة بإيجاد فروض، من أن الإنسان الأول قد جرب الواقع فوصل إلى المعرفة ثم كانت هذه التجارب للواقع تساعده على تجارب أخرى للواقع، وأعطوا لذالك أمثلة:
بأن الإنسان الأول قد اصطدم بالأشياء فانعكست عليه فصار بالحس يعرف أن هذه الثمرة تؤكل وهذه لا تؤكل، وصار يعرف أن هذا الحيوان يؤذيه فيتجنبه وهذا لا يؤذيه فيستخدمه ويركبه، و صار يعرف من الحس والتجربة أن الخشب يطفو على الماء فصار يستعمله لقطع البحار والأنهار وصار يعرف أن النوم في الكهف يقيه المطر والبرد والوحوش المفترسة فاتخذ المأوى...
وهكذا توصل الإنسان الأول بالحس إلى إصدار حكمه على الأشياء والتصرف تجاهها حسب هذا الحكم أي حسب هذا الفكر، وهذا يدل على أن الفكر هو نقل الواقع إلى الدماغ بواسطة الحس دون الحاجة إلى وجود معلومات سابقة.
والجواب على هذا القول: هو أن ما كان عليه الإنسان الأول فمجهول وغائب وما نريده هو الفكر والتفكير الذي يحصل عند الإنسان الحالي، فلا يقاس المعلوم على المجهول ولا الحاضر على الغائب وإنما العكس هو الصحيح فيقاس المجهول على المعلوم والغائب على الحاضر، فلا يصح أن نقيس الإنسان المعلوم الذي أمامنا، على الإنسان الأول الغائب والمجهول، لنعرف من ذلك معنى الفكر عند الإنسان الحالي، وإنما نقيس الإنسان الأول على الإنسان الحالي فنعرف، من معرفة الفكر والإدراك عند الإنسان الحالي، الفكر والإدراك عند الإنسان الأول، ولهذا كان من الخطأ إيراد هذا القول ثم إن ما يرويه التاريخ عن الإنسان الأول أو كما يقولون الإنسان في العصر الحجري هو أنه كان يبحث عن طعامه فيستعمل الأدوات الحجرية لقطف الثمار في الغابات وصيد الأسماك ودفع أذى الوحوش المفترسة وهذا إذا صح فإنه شيء يتعلق بإشباع الغرائز ولا يتعلق بالفكر أي يتعلق بالإدراك الشعوري، أي التميز الغريزي ولا يتعلق بالإدراك الفعلي(13).
والقائلون بالتفكير المادي يستدلون على ذلك بأنه قد يحصل أن يعطي شخص آلة معقدة وليست لديه معلومات سابقة عنها ويطلب منه حلها وتركيبها فيأخذها الشخص ويحاول إجراء تجارب متعددة عليها فيصل من هذه التجارب إلى حلها ثم إلى تركيبها.
فهو وصل إلى فكر دون حاجة إلى معلومات سابقة والجواب على ذلك هو:
أن هذا الشخص لديه معلومات متعددة. فأخذ بتجاربه المتعددة يربط المعلومات التي لديه بالواقع الذي بين يديه وبالمعلومات مع بعضها حتى توصل إلى إيجاد معلومات يفسر بواسطتها حل الآلة وتركيبها، وبهذه المعلومات التي توصل إليها توصل إلى الفكر. فهذا لا يؤتي به مثالا. وإنما المثال الذي يؤتي به هو الطفل الذي لا توجد لديه معلومات إطلاقا، أو الرجل الذي ليس لديه معلومات يمكن أن يستعين بها على إيجاد معلومات يفسر بها الواقع، كأن تأتي بأعرابي وتدخله مخبرا وتتركه يجرب، فهذا ليس لديه معلومات ولذلك لا يصل إلى فكر...
وعليه فالدماغ ليس محل الفكر، والحاصل أن الحواس تنقل صورة عن الواقع المادي إلى الدماغ، وهذه الصورة تنبع الحاسة التي نقلت الواقع، فإن كانت بصرا نقلت صورة الجسم، وإن كانت سمعا نقلت صورة صوته، وإن كانت شما نقلت صورة رائحته، وهكذا فيرتسم الواقع كما نقل في الدماغ، أي حسب الصورة التي نقلت، وبذلك يتم الإحساس بالواقع فقط، ولا ينشأ عن ذلك التفكير بل تميز غريزي فقط، من حيث كونه يشبع أو لا يشبع، يؤلم أو لا يؤلم، يفرح أو لا يفرح، يلذ، أولا يلذ ولا يحصل أكثر من ذلك، فإن كانت هناك معلومات سابقة ربطتها قوة الربط الدماغية بالواقع المحسوس الذي ارتسم في الدماغ، وعندئذ تتم العملية الفكرية، وينتج إدراك الشيء، ومعرفة ما هو، وإلا بقي عند حد الإحساس أو عند حد التميز الغريزي فقط.. إذن لابد من وجود الواقع المحسوس، والمعلومات السابقة، كما لابد من وجود الدماغ والحواس(14).
التفكير السليم:
وعليه فالفكر أو الإدراك أو العقل هو نقل الواقع عن طريق الحواس إلى الدماغ، مقترنا بمعلومات سابقة تعين على تفسير هذا الواقع.
وبهذا يكون علماء الشيوعية قد أخطئوا لأنهم لم يفرقوا بين الإحساس والانعكاس، وان عمليه التفكير لم تأت من انعكاس الواقع محل الدماغ، ولا من انطباع الواقع على الدماغ، وإنما جاءت من الإحساس، والإحساس مركزه الدماغ، ولولا الحس بالواقع لما حصل أي فكر ولما وجد أي تفكير بدليل أنه لا يوجد انعكاس بين المادة والدماغ فلا المادة تنعكس على الدماغ ولا الدماغ ينعكس على المادة لأن الانعكاس يحتاج إلى وجود قابلية الانعكاس في الشيء الذي يعكس الأشياء كالمرآة، وكآلة التصوير، فإنها تحتاج إلى قابلية الانعكاس عليها، وهذا غير موجود لا في الدماغ، ولا في الواقع المادي، فالمادة لا تنعكس على الدماغ ولا تنتقل إليه بل الذي ينتقل هو الإحساس بالمادة إلى الدماغ بواسطة الحواس، ولا فرق في ذلك بين العين وغيرها من الحواس، فيحصل من السمع واللمس والذوق والشم. فالإنسان إذا يحس بالأشياء بواسطة حواسه الخمس، ولا تعكس على دماغه الأشياء وبهذا يكون علماء الشيوعية وهم وحدهم الذين حاولوا معرفة واقع العقل قد أخطئوا حيث أنهم لم يفرقوا بين الإحساس والانعكاس والخطأ لم يكن ناجما عن عدم التفريق بين الإحساس والانعكاس فقط، وإلا لكانوا اهتدوا إلى أن المسألة هي إحساس وليست انعكاسا، بل أساس الخطأ، وأساس الانحراف ناتج عن إنكارهم أن لهذا لوجود خالقا فلم يدركوا أن وجود معلومات سابقة عن هذا الواقع شرط ضروري لوجود الفكر أي شرط ضروري لوجود العقل(15).
ولعل ما ذهب إليه عالم الفسيولوجيا والكيمياء الحيوية الدكتور(لتراوسكارلندرج) وغيره يكشف جانبا من هذه الأخطاء العقدية حيث يقول:
«أما المنشغلون بالعلوم الذين يرجون الله فلديهم متعة كبرى يحصلون عليها، كلما وصلوا إلى كشف جديد في ميدان من الميادين، إذ أن كل كشف جديد يدعم إيمانهم بالله، ويزيد من إدراكهم وإبصارهم لأيادي الله في هذا الكون»
ويرجع (لتراوسكارلندرج) إعراض بعض العلماء علية المبادئ عن الإيمان بالله رغم وضوح الأدلة التي تقود إليها الأبحاث في كل مجالات العلم إلى أسباب لا صلة لها بالبحث العلمي وخص منها:
1 _ ما تتبعه بعض الجماعات أو المنظمات الإلحادية، أو الدولة من سياسة معينة ترمي إلى شيوع الإلحاد، ومحاربة الإيمان(16) بسبب تعارض عقيدة الإيمان بالله مع صالح هذه الجماعة ومبادئها.
2ـ_ المعتقدات الفاسدة التي تجعل الناس منذ الطفولة يعتقدون باله على صورة الإنسان بدلا من الاعتقاد بان الإنسان قد خلق خليفة الله على الأرض، وعندما تنمو العقول بعد ذلك وتتدرب على استخدام الطريقة العلمية فإن تلك الصورة التي تعلموها منذ الصغر لا يمكن أن تنسجم مع أسلوبهم في التفكير أو مع أي منطق معقول»(17)..
يقول كانت الفيلسوف الألماني في هذا الصدد:
«وعلى الرغم من أن كل ما نصادف من تجارب لا يمكن فهمه وتفسيره إلا إذا صغناه بعبارات الزمان والمكان والسببية فلن تكون فلسفة صحيحة إذا فاتنا أن هذه ليست أشياء واقعة ولكنها وسائل لتفسير التجارب وفهمها فقط».
ويقول العالم البريطاني سير جيمس جينز في كتابه (عالم الأسرار):
«إن في عقولنا الجديدة تعصبا يرجح التفسير المادي للحقائق»(18).
ويرى عالم أمريكي آخر أن العقيدة الإلهية ليست ضد الحرية الفكرية وذلك يقوله «إن كون العقيدة الإلهية معقولة وكون إنكار الإله سفسطة لا يكفي ليختار الإنسان جانب العقيدة الإلهية، فالناس يظنون أن الإيمان بالله سوف يقضي على حريتهم، تلك الحرية العقلية التي استعبدت عقول العلماء، واستهوت قلوبهم، فأية فكرة عن تجديد هذه الحرية مثيرة للوحشة عندهم»(19).
ويتفق العالم الأمريكي سيسيل مع كانت في هذا الاتجاه حيث يقول «إن الطبيعة لا تفسر شيئا (من الكون)، وإنما هي نفسها بحاجة إلى تفسير». كان ذالك رأي طائفة من علماء الغرب.
أما الطائفة الأخرى المادية المحكومة بالرؤية الكمية فإنها تقول بالخلق والتخلق وتنكر وجود الله ونذكر منها على سبيل المثال: الفيلسوف الشيوعي إنجلز الذي ينظر إلى الإنسان كحيوان اقتصادي وهذا ما يدعم ما تقدم ذكره( 20) وذلك بقوله:
«إن كل القيم الأخلاقية هي في تحليلها الأخير من خلق الظروف الاقتصادية»(21).
وقد أكد (لابلاس) بفكرته الشهيرة أن النظام الفلكي لا يحتاج إلى أسطورة لاهوتية وقام بهذا العالمان (دارون) و (باستور) في ميدان لبيولوجيا. وقد ذهب كل من علم النفس والمعلوماتية التاريخية التي حصلناها في هذا القرن بمكان الإله الذي كان مفروضا أنه هو مدير شؤون الحياة الإنسانية والتاريخ»(21).
وهذا راسل يقول في هذا الصدد :
«درسنا العالم الطبيعي فوجدنا المادة عند العلم الحديث قد فقدت صلابتها وعفويتها، إذ حللها العلماء إلى مجموعات ذرية، كل مجموعة منها تنحل إلى ذرات، وكل ذرة تعود بدورها فتنحل إلى كهارب موجبة وأخرى سالبة، ثم مضى العلماء في التحليل، فإذا هذه الكهارب نفسها تتحول إلى إشعاعات !!
وختم (راسل) كلامه بهذه العبارة : «ليس في عالم الطبيعة ما يبرهن على أن الخصائص الذاتية للعالم الطبيعي تختلف عن خصائص العالم العقلي»(22).
وهنا لابد من الاقتراب من محاورة ومناظرة بين العالم الفيزيائي اينشتين وصحفي أمريكي يدعى (فيرك) في هذا الموضوع قال فيه الرجل : إنني لست ملحدا !!
ولا أدري : هل يصح القول بأني من أنصار وحدة الوجود(23). إن المسألة أوسع نطاقا من أن تحيط بها عقولنا المحدودة !!
وعاد الصحفي إلى سؤاله بطريقة أخرى فقال: إن الرجل الذي يكشف أن الزمان والمكان منحنيان، ويحبس الطاقة في معادلة واحدة( 24) جدير به ألا يهوله الوقوف في وجه غير الم(5)حدود !!
فيرد اينشتين ….يتواصل,,,