وحاول الباحث في جانب من فكره ودراسته أن يذكر الكتاب القيم لعبد الوهاب المسيرى الموسوم: ب: (الفلسفة المادية وتفكيك الإنسان) لإيضاح التفكير المادي الغربي لكينونة الإنسان. متحدثا عن القراءة النقدية التي اتخذتها مدرسة فرانكفورت لـ "العقل الأدائي" الباحثة عن جذوره في الخلفية الأسطورية والفلسفة الهلينية موضحا أن هذه القراءة ما هي إلا توكيدا لما سبق، وإشارة إلى أمر أعمق مما وقفت عنده هذه المدرسة السوسيولوجية ذاتها. فنمط العقل الأدائي هو مظهر للرؤية إلى الكائن الإنساني بوصفه كائنا ماديا.
مستخلصا أنه و بناءا على هذه الرؤية ينطلق العقل الغربي إلى قراءة مادية للذات والوجود، قراءة لا تنظر إلى الغايات بل تحول كل كينونة ـ حتى كينونة الإنسان ذاتها ـ إلى أشياء أدوات استعمالية.
وتأسيسا على هذا الكلام فإن نمط تفكير الحضارة الغربية نمط ذو نزوع كمي
متمحور حول الأشياء، ولذا فأسلوب مقارنته للوجود هو انتهاج للتحليل الكمي الأدائي المفارق لفلسفة الغايات المجاوزة لسياجات الحس المادي.
وفي هذا الإطار يأتي الطيب بوعزة، بالمقارنة الذكية التي أنجزها مالك بن نبي في كتابه "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" بين قصتي روبنسون كروزو، و حي ابن يقظان والتي هي عبارة عن نموذجين روائيين يمثلان مدخلا نمطي لرؤيتين الغربية والشرفية. معللا ذلك أن قصة روبنسون كروزو للروائي الانجليزي دانيال ديفو (1660 ـ 1731) تدور كلها حول عالم الحس، ولا تلتفت إطلاقا إلى ما وراء.
حيث أن كروزو لم يشغل نفسه في عزلته إلا بصناعة طاولة خشب والأكل والنوم، أي انحصرت أشواقه وهواجسه في الاهتمام بعالم المادة فقط.
بينما قصة "حي ابن يقظان" يشغلها هاجس البحث عن الحقيقة فانطلاقا من تأمل فكرة الموت يبدأ السؤال الوجودي عند بطل القصة حي، فينشغل بمعنى الروح، ليخلص بعد سلسلة من التأملات إلى وجود الله الخالق.
ويستنتج كما هو واضح من سياق المقارنة بين القصتين التمايز بين العقلين الغربي والشرقي، عقل يغوص في المادة ويغرق فيها فينسى ذاته وينسى سؤال الكينونة، وعقل يتشوف إلى ما وراء وينزع نحو تأمله.
وأن المختلف بينهما أكثر من المتشابه، كما أن ماحذفه ديفو من قصة بني الطفيل هو بالضبط ما ينقص نمط التفكير الغربي، وما أضافه هو بالضبط ما يميز هذا النمط! فماذا أخذ ديفو وماذا ترك من فصه حي بن يقظان) ؟!.
لقد استبقى ديفو أحداثا كثيرة، لكنها كلها تتميز بكونها أحداثا كمية شيئية. فإذا استثنينا تعلم اللغة كما علم (أسال) حي ابن يقظان نجد عند ديفو تعليم فرايدي لكروزو، فإن ما يبقى كله يتمحور حول الكينونة المادية مثل: تدجين بعض الحيوانات وبناء البيت وصنع الملابس والسلاح واكتشاف النار.
أما الذي حذفه ديفو فهو كل تلك الصيرورة التأملية الفلسفية الثرية التي ستخلص بحي ابن يقظان إلى الاعتقاد بالله الخالق، أي أن ما حذفه هو سؤال الحقيقة والنزوع إلى ما وراء!.
ويصل الكاتب خلال التحليل السابق في سياق المقارنة إلى تقرير اختلاف جوهري في الرؤية إلى الكائن الإنساني ووظيفته في الوجود، حيث تنزع الرؤية الفلسفية للحضارة الإسلامية نحو نظرة كلية كيفية، وتنزع الرؤية الغربية نحو نظرة تحليلية كمية.
وتتجسد هذه النظرة بوضوح في الاختزال المادي لكينونة الإنسان، حيث تؤول به إلى مجرد حيوان اقتصادي!.
مستدلا على هذا بكلام مالك بن نبي في سياق تحليل هذا الأخير لقصة ديفو حيث يقول في هذا الصدد: «إذ يعتزل الإنسان وحيدا، ينتابه شعور بالفراغ الكوني. لكن طريقته في ملء هذا الفراغ، هي التي تحدد طراز ثقافته وحضارته، أي سائر الخصائص الداخلية والخارجية لوظيفته التاريخية، وهناك أساسا طريقتان لملئ الفراغ، إما أن ينظر المرء حول قدميه أي نحو الأرض، وإما أن يرفع بصره نحو السماء».
ولم يكتف الطيب بوعزة بقراءة المفكر الجزائري مالك بن نبي لنموذج كروزو السابقة وتأويله لها فقط، بل إنه استند أيضا إلى قراءة السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر في كتابه الشهير «الأخلاق البروتستانتية» التي يؤول فيه شخصية روبنسون كروزو رائيا فيها تجسيدا لنموذج الإنسان الاقتصادي ومحددا لنمط الحضارة الرأسمالية.
وبعد مقارنته لقراءة مالك بن نبي وماكس فير لنموذج كروزو، يجزم بوعزة أن هذا النموذج ليس ملمحا من ملاح النمط المجتمعي الصناعي فقط، بل هو محدد من محددات نمط التفكير الغربي ككل بدليل: أن الرؤية الكمية إلى العالم لا تبدو فقط في هذا النتاج السردي الروائي ولا في النمط الثقافي والحضاري الغربي الراهن، بل حتى في الخلفية الثقافية الهلينية.
وقد وقفت مدرسة فرانكفورت مليا عند أسطورة أوديسيوس في ملحمة «الأوديسة» كاشفة عن مركزية هذه الرؤية المادية التي سيصطلح عليها هوركايمر، وأدورنو بـ "الأدائية". كما أن هذا النمط في تمثل الذات والوجود نراه يتمظهر في علم الفيزياء مع جاليليو في رؤيته التحليلية الرياضية للكون، وفلسفيا مع ديكارت في تمييزه بين الفكر والامتداد، وتأسيسه للعقل بوصفه قوة للسيطرة على الطبيعة واستغلالها.
كما سيتمظهر مجتمعيا في النمط الليبرالي، كنمط يتقصد تأسيس واقع يعامل الذات الإنسانية بوصفها جسدا بالإضافة طبعا إلى الخطاب الحداثي الرأسمالي حيث يلاحظ أن المنظرين للفكرة الرأسمالية سيحرصون على اختزال الدوافع والأشواق والغايات الإنسانية –حتى تلك التي تخرج عن نطاق العلاقة الاقتصادية– إلى رغبات وأشواق جسدية لتؤول إلى محض رغبة اقتصادية!
(لكن العقل الفلسفي الغربي عندما يستشعر أحيانا اختلال هذه الأولوية المطلقة التي يعطيها في المنظور الاقتصادي في فهم الإنسان وتحديد حاجاته؛ لأنه يحس أن ثمة دوافع وأشواق وقيما إنسانية تنفلت من إطار رؤيته المادية القاصرة، دوافع وأشواق تعلو القيمة المادية وتجاوز نطاقها الكسيح المحكوم بمعايير الحساب النفعي، نجده يحاول أن يغض الطرف عنها أو يتحايل لتجاوزها بمنطق التبرير والتسويق حينا أو بمنطق الاختزال بل والتحريف حينا أخرى(9).
ليس الإنسان مجرد كائن يعيش وجوده بل هو فوق ذلك كائن ينزع نحو فهم الوجود، بل حتى على مستوى وجوده الفردي يحرص على أن يجعل له معنى ودلالة ولا يكتفي بمجرد عيشه.
ويختم الكاتب الطيب بوعزة المغربي الجنسية بحثه المتميز بالقول: إن إنتاج معنى للوجود حاجة محايثة لكينونة الإنسان ولا يمكن تجاهلها. وهذا ما أدركه بعض ناقدي العقلانية الغربية واستشعروا الحاجة إلى اعتباره عند تحليلهم للوضعية الإنسانية.
معتقدا أن استثمار النيوليبرالي المعاصر روبير نوزيك للفلسفة الكانطية، ووقوفه في كتابه "الفوضى، الدولة واليوتوبيا" (Anarchy, State and Utopia)، عند وظيفة المعنى في حياة الكائن الإنساني، هو في تقديره ذو دلالة كبيرة إذ هو دليل حسب اعتقاده على اضطرار المقاربة الأدائية المادية إلى توسيع رؤيتها إلى خارج السياج المادي، وان كان ذلك لم يثمر عندها أي تبديل لنمط رؤيتها لماهية الإنسان بسبب عدم انتباهها إلى منطلقها الخاطئ المحكوم بالرؤية الكمية(10).
إذا اعتمدنا رؤية روبير نوزيك هذه فإن المقارنة الأدائية المادية ترى أنه في الوقت الذي تشعر فيه بضرورة توسيع رؤيتها إلى خارج السياج المادي، فإنها مازالت مقيدة بمنطلقها الخاطئ المحكوم بالرؤية الكمية.
واقع العقل:
إن هذا المنطلق ناتج من أن الإنسان قد قطع هذه المسافة الطويلة من الحياة ومن عمر الزمان وهو يعني أكثر ما يعني نفسه بنتاج العقل وبنتاج التفكير، دون أن يعني نفسه بواقع العقل وبواقع التفكير.
إن جميع المحاولات(التي قام بها بنو البشر في القديم والحديث لمحاولة إدراك واقع العقل قد باءت بالفشل وسبب إخفاقهم وعدم اهتدائهم حتى الآن، إلى واقع التفكير، وإلى طريقة التفكير، هو البحث في التفكير قبل البحث في واقع العقل ولا يمكن الاهتداء إلى واقع التفكير إلا بعد معرفة واقع العقل معرفة يقينية، لأن التفكير هو ثمرة العقل، والعلوم والفنون والأدب والفلسفة، والفقه واللغة وسائر صنوف الثقافة، إنما هي ثمرة التفكير. لذلك فإنه لابد من معرفة واقع العقل أولا معرفة يقينية بشكل جازم ثم بعد ذلك يمكن معرفة واقع التفكير ويمكن معرفة الطريقة المستقيمة للتفكير، فجميع المحاولات التي قام بها الأقدمون والمحدثون لا يوجد فيها ما يستحق الذكر ولا ما يرتفع إلى مستوى النظر سوى محاولة علماء الشيوعية، فإن تعريفهم وحده هو الذي يستحق الذكر ويمكن أن يرتفع إلى مستوى النظر لأنها كانت محاولة جدية لم يفسدها عليهم إلا إصرارهم الخاطئ على إنكار أن لهذا الوجود خالقا، ولولا هذا الإصرار لتوصلوا إلى إدراك واقع العقل إدراكا حقيقيا. فهم بدئوا البحث في الواقع والفكر فقالوا هل الفكر وجد قبل الواقع؟ أم الواقع قبل الفكر؟ واستقر رأيهم النهائي على أن الواقع وجد قبل الفكر. وهذا فهم صحيح ومعناه أن العقل والتفكير أو الإدراك هو نقل الإحساس بالواقع بواسطة الحواس ـ إلى الدماغ، ووجود معلومات سابقة تفسر بواسطتها هذا الواقع بمعنى أنه لابد من وجود أربعة أشياء حتى تتم العملية العقلية ـ أي حتى يوجد العقل أو الفكر. إذ لابد من وجود واقع وحس ودماغ صالح ومعلومات سابقة، والعقل موجود عند الإنسان فقط، بينما توجد الغرائز والحاجات العضوية عند الإنسان وعند الحيوان، وإن إحساساتها موجودة عند الإنسان وعند الحيوان، وكذلك استرجاع هذه الإحساسات، ولكن ذلك كله إنما هو تمييز غريزي للأشياء، ولا تعتبر عقلا ولا إدراكا ولا فكرا ولا تفكيرا، فالعقل يحتاج إلى وجود خاصية ربط المعلومات.
وهذه ليست موجودة إلا عند الإنسان، وخاصية الربط هذه إنما تربط المعلومات السابقة لدى الإنسان بما يقع عليه حسه من واقع، ومن هنا كان لابد من وجود المعلومات السابقة عن الواقع عند الإنسان الأول (11) (وهذا ما سيأتي تفصيله في سياق هذا الكتاب بحول الله).
هذه الطريقة العقلية التي أقرها العلم الحديث لم يستفد منها نتيجة لمنطلقه الخاطئ الذي ينكر أن لهذا العالم خالقا خلقه من عدم.
وانطلاقا من هذا المنطلق الكمي الذي لا يؤمن بخالق هذا الوجود المفطور فإننا نجدهم حين حاولوا ربط الواقع بالدماغ للوصول إلى الفكر أي الإيجاد التفكير ضلوا الطريق، فجعلوا الربط بينهما هو انعكاس هذا الواقع على الدماغ فخرجوا بالنتيجة الخطأ في معرفة العقل، ولذلك عرفوا العقل تعريفا خاطئا. وسبب ذلك هو إصرارهم على إنكار أن للوجود خالقا خلقه من عدم. لأنهم لو قالوا إن المعرفة تسبق الفكر فإنهم يقفون أمام حقيقة واقعة، وهي أنه من أين جاء الفكر قبل وجود الواقع؟ ...يتواصل...