تقول الحكاية إن ولدا قصير القامة دخل مقصورة التلفون على الشارع العمومي و وقف على المقعد المخصص للجلوس حتى يتمكن من الوصول الى سماعة التلفون المعلق على حائط المقصورة ... ثم بدأ حديثة بينما كان صاحب الحانوت الملاصق للمقصورة يرى و يسمع ... بدأ الولد حديثة بتحية حارة مع ما تيسر له من عبارات التقدير و الإحترام للشخص على الطرف الآخر ... ثم قال : سيدتى أود أن أعرض عليك خبرتي و خدماتي فيما يتعلق بحديقة منزلك... أستطيع أن أعتني بكل النباتات في حديقتك عناية فائقة بل و بالنباتات و الأشجار القريبة من منزلك بحيث تكون حديقة بيتك هي الأجمل في محيطها على الإطلاق ثم إنني سأقوم بعملي مقابل نصف الراتب الذي يتقاضاه ذلك الشخص الذي يعمل في حديقتك الآن... قالت السيدة... شكرا جزيلا يا ولدي!... و لكنني راضية عن خدمات الشخص الذي يعمل لدي و لا أبغي به بديلا!... إنه ولد خدوم مواظب على عمله و هو فوق ذلك مؤدب و خلوق... إنه يستحق أكثر مما أدفعه له مقابل خدمته المتميزة في حديقتي و في محيطها أيضا... أعاد الولد سماعة الهاتف الى موضعها و علامات الرضى بادية على وجهه!... دعاه بعد ذلك صاحب الحانوت الذي كان يرى و يسمع حديثه مع السيدة... قال له: لقد أعجبت بحديثك و جديتك و إصرارك على الحصول على عمل عند تلك السيدة و يؤسفني أنك فشلت في الحصول على عمل لديها!... لذلك أدعوك للعمل معي في هذا المحل... قال له الولد: شكرا لك على هذا العرض... أنا كنت فقط أتأكد من أن السيدة التي أعمل لديها راضية عن خدماتي... إنني في الواقع أعمل لدى السيدة التي كنت أتكلم معها الآن!...
حسنا ... تلك كانت طريقة ذلك الولد الجاد الخدوم الخلوق الذي يستحق أكثر مما يحصل عليه -بشهادة مشغلته- للتأكد من أن من يعمل لديها راضية عن خدماته و أنه مهم و أنه يؤدي خدمة لا تقل قيمة عما يتقاضاه مقابلها... و لكن ماذا بالنسبة لي و لك؟... كيف يعرف أحدنا أنه مهم في موقعه سواء كان ذلك الموقع مؤسسة تنتج البضائع أو الخدمات أو كان مؤسسة تعليمية تعلم و تربي أجيال المستقبل؟...
الحياة من حولنا مليئة بأشخاص إن غابوا لم يفتقدهم أحد و إن حضروا لم يضيفوا شيئا... هؤلاء هم العاديون ... يعيشون عاديين و يموتون عاديين و يدفنون في مقابر العاديين بعد أن أكملوا درة حياتهم دون أن يضيفوا أي شيء للحياة... تجد أمثال هؤلاء مكدسين في المؤسسات العمومية و الحكومية عادة ... هم المصدر الرئيسي لما يسمى "البطالة المقنعة" و يرجع إليهم "الفضل" في ترهل تلك المؤسسات و انتشار ظاهرة التسيب و عدم الإنتاجية!... و هذا ليس دليلا فقط على عدم أهمية هؤلاء بل أيضا هو دليل على بؤس و عدم أهمية تلك المؤسسات بمن فيها من الرأس الى أخمص القدم...
كيف يمكنك معرفة أنك رقم مهم في موقعك و لست مجرد موظف عادي إضافي لا يقدم و لا يؤخر؟... يمكنك معرفة ذلك مثلا:
إذا كنت تأتي الى موقعك في الصباح الباكر و أنت تعرف جيدا ما الذي يتوجب عليك فعله في ذلك اليوم دون انتظار أمر أو إشارة من أحد...
إذا كنت تستطيع بعفوية و تلقائية أن تجيب على السؤال المتعلق برؤية و رسالة مؤسستك... تقول معظم الدراسات التي تتناول المؤسسات الحديثة إن الذين لا يمتلكون فكرة واضحة عن رسالة و أهداف مؤسساتهم هم أناس غير فاعلين بل هم عبء على مؤسساتهم و ربما يسيئون إليها بدل ما كان منتظرا منهم من إجادة و إحسان.
إذا كنت تتلقى الاتصالات يوميا من رؤسائك و مرؤوسيك يستشيرونك حول ما يعرض لهم من مشاكل و معضلات...
إذا كنت تعرف أن الذي يربطك بمؤسستك ليس العقد الذي بينكما و إنما كونك تمتلك مهارات تؤهلك لأن تلعب دورا حيويا يجعل من المستحيل التخلي عنك تحت أي مسوغ...
إذا عرض عليك رئيسك –دون طلب- ساعات عمل إضافية أو علاوات أو مكافآت مقابل عمل جديد يعهد به إليك...
إذا جئت في الصباح الباكر لموقعك و تفاجأت برئيسك أمامك يلقى عليك تحية الصباح ثم يسلم لك ترقية لم تطلبها و لم تفكر فيها على الإطلاق...
إذا كنت تبتكر الحلول التي تقلل من التكاليف و تزيد الإنتاجية في مؤسستك... أي إذا كنت كالدجاجة التي تبيض ذهبا في مؤسستك ...
إذا كانت فلسفتك في العمل هي " قبل أن أطلب راتبا أكبر... سأكون الشخص الذي لا يمكن الإستغناء عنه"...
إذا شعرت في مرحلة ما أن الوقت قد حان للإستقالة من وظيفتك الرسمية و تأسيس المشروع الخاص بك...
و في المقابل كيف يعرف أحدنا أنه ليس مهما في موقعه و أن مشغله يتمنى اليوم الذي لا يراه فيه و أنه مستعد ليس فقط لاستبداله بشخص آخر بل لوضع قطعة خشب فلّين مكانه ثم ينساه الى الأبد!...
أنت لست مهما باختصار... إذا جئت في الصباح الباكر الى موقع عملك دون أي فكرة عما يتوجب عليك عمله في ذلك اليوم...
أنت لست مهما باختصار ... إذا أمضيت ساعات دوامك و أنت تصرّف -مع غيرك في المؤسسة- فعل "connecter" و/أو فعل "naviguer"... تدخل-كما يدخلون- المواقع الإخبارية فلا تجد جديدا ثم تنقل الى مواقع الترفيه و التسلية و التواصل و الدردشة ... الى آخر دقيقة من دوامك ثم تنصرف راشدا الى بيتك دون أن يتصل بك أحد أو يكلفك أحد بشيء ... و في آخر الشهر تتسلم كشف راتبك الذي لا يغني من جوع و لا يؤمن فقر... ثم يسيطر عليك شعور حزين بأنك لست الضائع الوحيد في مؤسستك... ثم -على الرغم من ذلك الشعور- تواصل مسيرتك وفق فلسفة "الميت في عشرة أنزاهة"...
أنت لست مهما باختصار... إذا كنت تخاف العقاب إن أنت تأخرت عن الدوام بعشر دقائق!... بدل رغبتك الجامحة في الوصول الى موقعك قبل موعد الدوام لأن أعمالا صعبة و مهمة تنتظرك و ليس لها إلا أنت!...
أنت لست مهما باختصار... إذا سيطر عليك شعور كاسح بأنك لن تحصل على علاوة و لا على ترقية في مؤسستك مهما بذلت من جهد و أبليت من بلاء حسن!...
أنت لست مهما باختصار... إذا لم تكن لديك خبرات و لا مهارات تساهم من خلالها بشكل مباشر في الرفع من إنتاجية مؤسستك... إذا كانت فكرة زيادة الراتب هي المسيطرة عليك بدل الرفع من قدراتك المهنية و المعرفية فأنت لست مهما بإختصار....
أنت لست مهما باختصار ... إذا سيطرت عليك فكرة أن نهاية التاريخ ستحل بمجرد أن تستغني مؤسستك عن خدماتك فيها...
أنت لست مهما بإختصار... إذا تفاجأت ذات صباح برئيس لك جديد كنت تشرف على تأهيله و تدريبه بالأمس القريب ينزل على رأسك بمظلة من السماء! ...
أخيرا أنت ليست مهما... إذا لم يذكرك ذاكر في مؤسستك بعد انتقالك الى رحمة الله... إذا كنت ترى زملاءك يغادرون الحياة الدنيا دون إبداء مشاعر إنسانية تذكر تجاههم فأعلم أنك لست مهما في موقعك!...
عندما كنت أدرس في الجامعة في تسعينيات القرن الماضي كان من عادة تلك الجامعة إذا مات أحد من عمالها و موظفيها أن تنصب له صورة مكبرة عند مدخلها الرئيسي حيث يتذكره الكل ... بعضهم يضع الورود إكراما له و بعضهم يقف أمام صورته دقيقة صمت ترحما عليه حسب معتقدهم!... إنه تعبير من هذه المؤسسة عن اهتمامها بالأفراد الذين يخدمونها بمختلف مستوياتهم و رتبهم من رئيس الجامعة الى مهندس النظافة فيها... بالمناسبة الذي ينظف المجاري و الحمامات يسمونه "مهندس" نظافة إكراما له و عرفانا بأهمية ما يؤديه من عمل... أنا لا أدعو الى تقليد هؤلاء فلنا ديننا و لهم دينهم ... و لكن العناية بالناس و التعبير عن أهميتهم فعلا و قولا ليس فقط في حياتهم و إنما أيضا بعد مماتهم مسألة في غاية الأهمية ... هذه العناية لها مفعول قوي في تعزيز الإنتماء للمؤسسة و التفاني في خدمتها و السعي الجاد الى تحقيق أهدافها و لو تكلف الناس في سبيل ذلك الغالي و النفيس ... و العكس بالعكس.
كان من عادة النبي محمد صلى الله عليه و سلم أن يجعل أصحابه و عامة المسلمين محل عناية فائقة... يتفقد أحوالهم و يسد خلّتهم و يقضي المستطاع من حوائجهم ... يضفي عليهم من المشاعر النبيلة و الإحترام و القدير ما ينسيهم ما هم فيه من حالة الفقر و شظف العيش صلى الله عليه و سلم... من ذلك أنه عندما يأتيه أحدهم بصدقته يبادره بسؤال كريم و عظيم: ماذا تركت لأهلك يا فلان؟... لا يقول له هذا قليل أو هذا ليس من نوعية جيدة... ثمة ما هو أهم بكثير من كمّ الصدقة و من كيفها ... هو أنت و أهلك و ماذا تركت لهم؟!... كان يدعوا لهم فرادى و جماعات... و يصلي على موتاهم و يدعو لهم و يواسيهم و يعزيهم في مصابهم و خفف عنهم بما تيسر وقع المصيبة التي حلت بهم... من ذلك أن سيدة من عامة المسلمين كانت تواظب على تنظيف المسجد فافتقدها رسول الله صلى الله عليه و سلم ذات يوم و سأل عنها فأخبروه أنها توفيت و أنهم دفنوها فقال-ما معناه- فهلا أخبرتموني! دلوني على قبرها!... فدلوه على قبرها فصلى عليها صلى الله عليه و سلم و عظّم و كرّم و شرّف....
كن رقما صعبا و مهما في موقعك ... إن لم تستطع لسبب من الأسباب... فعليك أن ترحل... فإما أن الموقع الذي أنت فيه لا يستحقك أو أنك لا تستحقه.... و أرض الله واسعة و رزقه أوسع... و خير الكلام ما قلّ و دلّ.
د. محمد محمود سيدينا