نحن الذين نصنع الطغاة، نصنعهم بقوة الخوف الذي يسكن في قلوبنا وبالشكوك التي تحتل عقولنا وبالخنوع الذي يمتص وجداننا وبالكسل الذي يشل أطرافنا، والطاغية لا يولد من العدم وإنما يولد من رحم الجهل والفقر والمرض، وكما في قوانين التنمية إن الثراء يولد الثراء والتخلف يولد التخلف والطغيان ليس سوى شكل من إشكال إعادة إنتاج التخلف في النظام السياسي الحاكم المستبد الذي يكرس التخلف بدوره ويزيده رسوخا بقوة الطغيان وهو يستخدم سيطرته المطلقة لوأد مواهب التحرر وامكانات التقدم في شعبه قبل أن تبلغ سن الرشد ضمانا لاستمرار سلطانه. وإلا، فلماذا لا يخطر على البال وجود الطغاة في سويسرا مثلا أو في فرنسا أو إنكلترا والسويد أو غيرها من دول العالم المتقدم ؟!! ليس لهذا من تفسير سوى أن التقدم الذي حصلت عليه تلك الدول لم يكن مقصورا على نخبة قليلة في البلد وإنما كان خيرا عميماً شمل كل الأحياء هناك من بشر وحيوان ونبات،
وان الوعي الذي يصاحب التقدم هو الذي قطع الطريق على كل احتمالات تسرب الطغاة إلى سدة الحكم. وخير مثال حي على ذلك هو ما حدث في فرنسا في أواخر عهد الثورة الجزائرية حين أعلن الرئيس الفرنسي آنذاك الجنرال (ديغول) عن قراره بالانسحاب من الجزائر وكيف تمرد على القرار العديد من جنرالات الجيش وهددوا باحتلال باريس لفرض نظام يضمن استمرار الوجود الفرنسي في الجزائر. كان ذلك يعني بما لا يقبل الشك أن رياح الديكتاتورية العسكرية تهب على فرنسا الديمقراطية، وسرعان ما التقط الشعب الفرنسي هذه الرائحة الكريهة الطارئة فنزل سكان باريس فورا وعلى بكرة أبيهم إلى الشوارع وغطوا بملايينهم ساحاتها وأزقتها وشوارعها وفي أيديهم ما يملكونه من أسلحة عادية تعبيرا عن استعدادهم لمواجهة أي حركة عسكرية حمقاء يمكن أن تأتي من البر أو تهبط من الجو. قضت هذه الملايين ليلة أو ليلتين على هذا المستوى الرفيع من الاستنفار الشعبي الشامل والخارق، وبينهم بالطبع مؤيدون كثيرون لبقاء فرنسا في الجزائر ولكن فكرة مقاومة الدكتاتورية كانت أقوى لديهم من أية رغبة أخرى، وسرعان ما تداعت عزائم الجنرالات المتمردين وانهارت حماستهم حين وصلتهم أخبار شعبهم في باريس وكيف يستعد لاستقبالهم، فصمتوا وأذعنوا لقرار الشعب وخاب فأل الديكتاتورية في أن تتسلل إلى فرنسا الديمقراطية. لم يكن هذا ممكنا بالطبع في عهود التخلف قبل أكثر من مئتي عام حين نشبت الثورة الفرنسية وبالرغم من أنها رفعت شعار الحرية والأخاء والمساواة ولكنها لم تنجح في القضاء على الدكتاتوريات حيث تقلبت على فرنسا أدوار متنوعة من الحكم الاستبدادي استمرت أمدا طويلا. وقد يولد الطاغية في بلد متقدم ولكن ذلك لا يتم إلا في حالات نادرة يتعرض فيها هذا البلد (كما حصل في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى) إلى حصار عالمي يخنق طاقاته،
وفي مثل هذه الأزمات الخانقة تتضخم الأوهام وتتراجع العقلانية ويسهل ترويج فكرة المنقذ أو المخلص الأوحد حسما للنقاشات في زعم أنصار هذه الفكرة. قد يولد الطاغية في مثل هذه الظروف ولكن حكمه لن يدوم طويلا كما حصل لهتلر وصدام حسين لأسباب كثيرة أهمها تكاتف الديمقراطيات ضد الحكومات الشاذة، إضافة إلى الأخطاء الجسيمة التي يرتكبها عادة الطغاة وهم يتوهمون بأن الاستبداد يجسد القوة المثلى وإن الديمقراطية تمثل التفكك والتباعد والضعف وإنهم (الطغاة) قادرين على كسب الحروب ضد جميع المعارضين، وهكذا يغرق الطغاة في البلد المتقدم سريعا محكوما بمنطق استحالة سباحة الفرد عكس التيار الجارف السائد. أما الطغاة في العالم المتخلف فتراهم راسخين على عروشهم فإذا سقط أحدهم خلفه على الفور طاغية آخر أسوء منه، وكأن الطغيان وهو يعيد إنتاج نفسه بهذه السهولة يؤكد ميدانيا إنه هو القانون الأساسي الذي يحكم علاقات الحاكم بالمحكومين. إذا، نحن الذين نصنع طغاتنا، ولا يحق لنا أن نشتكي منهم وحدهم، فالشكوى يجب أن تكون منا ومنهم أو علينا وعليهم، فنحن لن نتحرر من الطغيان بأن نتمرد ذات يوم على أحد الطغاة وننجح في إسقاطه مادام هناك طاغية آخر مستنفر أبدا لخلافته، وإنما نتحرر إذا ما تمكنا أن نتمرد على أنفسنا أولا وعلى البالي من عاداتنا وعلى الخوف الساكن بقلوبنا والأوهام التي تسوق خداعنا وتعمق قناعاتنا حول قدسية الحاكم ثانيا، ومتى ما تغيرنا حقا واستبدلنا الخوف بالشجاعة والذل بالأنفة والتعصب الأعمى بالتسامح والجهل بالمعرفة فلا سبيل عندئذ للطاغية أن يعيش بيننا. ولا يعني هذا أن ندع الطغاة وشأنهم من دون احتجاج أو اعتراض حتى تتم عملية التغيير الشاملة في القاعدة فتلك عملية معقدة طويلة النفس،
إن العمل ضد الطغيان نشاط بشري شامل يبدأ من كل الجوانب والأطراف في آن واحد، والتمرد على الطغيان في كافة المجتمعات جزء لا يتجزأ من عملية التعود على الشجاعة والحكمة ومراجعة الذات، والتغيير لا يحصل بشكل سهام متباعدة متفاوتة وإنما يحصل بشكل قوس مفتوح مترابط وبقدر ما يكون هذا التغيير عاماً وشاملاً يكون حقيقياً وفعالاً. نحن الذين نصنع طغاتنا، ونحن ملوثون بقدر ما نتهم به الطغاة من تلوث، ونحن ظالمون بقدر الحيف الذي نسببه لأنفسنا، فإذا راودنا الشك بعد كل هذا في مسؤوليتنا عما نحن فيه فذلك ليس إلا دليلاً على استحقاقناً لمصيرناً الذي نشكو منه وإن وجود الطغاة بيننا ليس ظاهرة طارئة بل هي صورتنا الحقيقية التي لا تتم إلا بوجوده. إذا أردنا أن نتحرر من الطغاة فيجب أن نتغير لأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم