صليت ذات مساء في أحد مساجد القرية الهادئة الوادعة بين السهول و الوديان... بعد إنتهاء الصلاة انبرى أحد المتحدثين موجها و واعظا... كان موضوع كلمته "خطر وسائل التواصل الإجتماعي" ... و لعله قال في شأن الوات ساب تحديدا "ما لم يقله مالك في الخمر" كما يقال في المثل المتداول بين الناس... هل تذكون ما الذي قال مالك في الخمر؟... بالمناسبة مالك لم يقل في الخمر إلا ما قاله العلماء من تحريمها حرمة باتة و زاد منع تناولها للمضطر بجوع أو بعطش... قال مالك: لا يشرب المضطر الخمر فإنها لا تزيده إلا عطشاً... هذا هو كل ما قال مالك و لست أدري كيف أنتشر ذلك المثل و سارت به الركبان حتى أضحى متداولا منسابا على ألسنة العامة!.
حديث الرجل الموجه الواعظ أثار في ذاكرتي مواقف بعضهم من كل جديد... أحدهم –مثلا- كان لا يثق بالإذاعة أبدا و لا يأخذ عنها حتى ما يتعلق بصومه و إفطاره فهو من قوم يعتقدونها من قبيل السحر و الدليل عندهم هو ما بجوف الراديو من أسلاك و عقد غريبة!...
حدث أحد عامة الوعاظ في مجلس ذات مرة فقال ما معناه تقريبا : الله سبحانه خلق الكفار للتكاثر و التسابق في الحياة الدنيا لكي يتمتع المسلمون بما ينتجون و يصنعون من و سائل الراحة و الرفاه... و خلق المسلمين لعبادته سبحانه و تعالى!...
ليس بعيدا من حديث هذا الرجل تنتشر المواعظ تسفيها و تبخيسا للدنيا... فهي كما يرددون على مسامعنا صباحا و مساء كالجيفة النتنة الملقاة على قارعة الطريق لا يشتغل بها عاقل بل هي لا تساوي عند الله جناح بعوضة و هو كلام حق غير أنه بتر بفجاجة من سياقه بشكل لا ينطلي على مؤمن عارف بصير بمقاصد دينه و بمعنى العبادة الذي يسع الحياة بكل تفاصيلها و يشمل تدبير شؤون الخلافة في الأرض بكل متطلباتها... الحياة تمتد معناها و قيمتها من الآخرة و عندما يحث الانفصام تكون الحياة فعلا بلا قيمة لهوا و لعبا و زينة و تفاخرا بدون معنى.
الكثيرون من المسلمين في القرن الواحد و العشرين ما زالوا يعتنقون أفكارا من قبيل ما تمت الإشارة إليه -على الأقل في منطقة أللاوعي لديهم- لذلك يعزفون عن كل جديد بحجة أنه قد ملئ شرا و سوء و إساءة... إنه موقف شبيه بموقف ذلك الذي يفضل وصف الكأس أمامه بأنها نصف فارغة بدل وصفه لها بأنها نصف ممتلئة!... هؤلاء ليسوا من طبقة الأميين بل قد تجد من بينهم الفقيه و المهندس و الطبيب و... أعرف بعضهم قد أغلق حساباته على مواقع التواصل بعد تجربته الأولى من هول صدمة ما تمتلئ به تلك الوسائل من سوء... لقد فضل أن يدس رأسه في التراب بدل اتخاذ موقف إيجابي من خلال ملئها بما تيسر من خير... إنه يستسهل لعن الظلام بدل إيقاد شمعة إضاءة كما يقال...
في واقع الأمر ما تمتلئ به وسائط و وسائل التواصل من شر ليس جديدا فقد سبقهم الأولون إلى ما هو أبشع و أشنع و أفظع من قتل و فحش و فاحشة ... الفرق فقط في أن هذه الوسائط أدخت تلك المنكرات و الفظائع إلى كل بيت دون استئذان و هي -لحسن حظنا- مستعدة في المقابل لإدخال الخير في كل بيت دون استئذان أيضا... و هذا هو النصف الممتلئ من الكأس الذي يجيب أن لا يفوته أحد علينا.
قال أحدهم ذات مرة إن العالم ممتلئ بالشر ليس بسبب الأشرار إنما بسبب أن الخيرين الذين يرون الشر ينتشر في الآفاق لا يحركون ساكنا!... ماذا لو تكفل كل واحد منا بإشهار و نشر الفضيلة أضعاف ما ينشر من شر و فاحشة و فظاعة في ذاك الفضاء المفتوح ... أعتقد أن كفة الخير في الميزان سترجح و أن الفضيلة و الطهر و النقاء ستصبح الموضة المفضلة التي سيتسابق الناس الى اعتناقها ... إذ كل إناء بالذي فيه يرشح ..."فأما الزَّبد فيذهب جُفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"... إن الأمر شبيه بأحد الأسواق الحرة المفتوحة حيث يعرض الناس ما بحوزتهم من بضائع بدون حدود أو قيود... و لا تلام السوق إن امتلأت بالبضائع الرديئة إنما يلام أصحاب البضاعة الجيدة على عزوفهم عن ولوج السوق و إغراقها بالبضاعة الأصيلة الجيدة...
لقد أصبح تبخيس الدنيا و التقليل من شأنها و مهاجمة كل جديد فيها حديث الوعاظ المفضل في هذه الأيام... لعل الرسالة التي يوصلونها للناس دون قصد منهم هي : "لا تضيعوا أوقاتكم في شؤون الدنيا الفانية و اجلسوا في بيوتكم –إن كانت لم بيوت- حتى يأتيكم اليقين"...
هل هذه ثقافة أمة الشهادة على الناس... أمه تزهّد أبناءها في الدنيا على هذا النحو في الوقت الذي تتسابق فيه أمم الدنيا علما و بناء و تشييدا؟... أمة ترسخ في عقول أبنائها عقلية العالة... عقلية الاستهلاك بدل الإنتاج... عقلية التسول بدل البذل و العطاء و الإيثار ... عقلية التبعية بدل القيادة و الريادة... أمة تحارب كل جديد بدل خلق و إبداع الجديد....
قال سبحانه و تعالى: "و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا"
لست أدري كيف ستكون شهادة هذه الأمة على الناس و قد دست رأسها في التراب و تركت قوى الشر سرح و تمرح في الدنيا دون أن تحرك ساكنا!... بودي أن يفكر وعاظنا الكرام في جواب لهذا السؤال ... و بودي أيضا أن يذكرونا بما ورد من آيات و أحاديث في أن الدنيا هي فرصة الفوز و الفلاح في الآخرة و أنها مزرعة الآخرة و أنه لا حصاد لمن لم يزرع ... بدل –أو ربما على الأصح مع - بيان شطارتهم في حفظ و ترديد ما ورد في كونها فانية و لا تساوي عند الله جناح بعوضة.
و خير الكلام ما قلّ و دلّ.
د. محمد محمود سيدينا.