هل حصل معك مرة أن كنت في موقع مليء بالصخب و الضوضاء بفعل تداخل و تشابك الموجات الصوتية الصادرة عن أناس يعتقدون أنهم في جلسة عمل أو حوار أو مفوضات أو –حتى- في سمر ليلي بين أصدقاء؟... هل حاولت بعد خروجك من ذلك الموقع تلمس بقايا فائدة من تواجدك بينهم على مدار ساعات معدودة فلم تجد شيئا مذكورا؟... ما هي الصورة التي علقت بذهنك لمنعشي تلك الجلسة في ذلك الموقع الذي يعصف صخبا و ضوضاءا؟... و أخيرا هل تود التواجد في مثل تلك المواقع مع أمثال أولئك الناس؟...
حسنا ... دعونا الآن نقارن بين ثلاثة:
1-رجل إذا تكلمت بين يديه عن حادثة وقعت لك .. قاطعك في أولها و قال : وأنا أيضاً وقع لي شيء مشابه .. فتقول : له اصبر حتى أكمل ... فيسكت قليلاً .. فإذا انسجمت في حديثك قاطعك قائلاً : صحيح .. صحيح .. نفس القصة التي وقعت لي وهو أنني ذات مرة ذهبت ... فتقول له : يا أخي انتظر .. فيسكت .. ثم ما يصبر فيقاطعك ... هذا هو الأول
2-أما الرجل الثاني .. كان وأنت تتحدث معه يتلفت يميناً و يساراً ... وقد يخرج جهاز هاتفه من جيبه ويكتب رسالة أو يقرأ شيئاً من الرسائل أو -من يدري - لعله يلعب بعض الألعاب الالكترونية بينما انت تحدثه...
3-أما الثالث ... تجده و انت تتحدث إليه قد ركز عينيه برفق و اهتمام ينظر إليك .. يشعرك بمتابعته لك .. فتارة يهز رأسه موافقاً .. وتارة يتبسم .. وتارة يضمّ شفتيه متعجباً .. وربما ردد : عجيب .. سبحان الله .. ماشاء الله... شيئ ممتع ... جميل...
و السؤال هو: أي الثلاثة أحب إليك؟... و أيهم أقرب الى قلبك و عقلك؟... و أيهم ستكون مستعدا للسماع منه و التجاوب معه؟... دعونا نرى تطبيقا عمليا يجيب عن هذه الأسئلة من خلال قصة إسلام ضماد بن ثعلبة الأزدي- مع شيء من التصرف غير الخل- :
في يوم من الأيام قدم إلى مكة رجل اسمه ضماد .. وهو حكيم له علم بالطب والعلاج .. يعالج المجنون والمسحور .. فلما خالط الناس سمع سفهاءهم يقولون عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه مجنون.... فيقولون: جاء المجنون .. ورأينا المجنون و....
فقال ضماد : أين هذا الرجل ؟ لعل الله أن يشفيه على يديّ !؟... فدله الناس على رسول الله صلى الله عليه و سلم .. فلما لقيه .. قال ضماد : يا محمد .. إني أرقى من هذه الرياح .. وإن الله يشفي على يدي من شاء .. فهلمّ أعالجك ... وجعل يتكلم عن علاجه وقدراته ... و أنه شفى فلان و علان و النبي صلى الله عليه و سلم ينصت إليه .. وذاك يتكلم والنبي صلى الله عليه و سلم ينصت ... ينصت إلى ماذا ؟ ينصت إلى كلام رجل مخرف جاء ليعالج رسول الله الى العالمين من مرض الجنون! إنه لحديث تافه أليس كذلك؟... و لكن لأدب النبوة محددات غير التي بين أيدينا... و لما انتهى ضماد من كلامه دون أية مقاطعة و لا أي اعتراض من طرف محمد صلى الله عليه و سلم ... قال -صلى الله عليه و سلم- بكل هدوء : إن الحمد لله .. نحمده و نستعينه .. من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ... فلما أكمل صلى الله عليه و سلم كلامه ... قال ضماد : والله لقد سمعت قول الكهنة و قول السحرة وقول الشعراء فما سمعت مثل هؤلاء الكلمات ... فهلم يدك أبايعك على الإسلام ... فبسط النبي صلى الله عليه و سلم يده الشريفة ... وأخذ ضماد يخلع ثوب الكفر ويردد : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ... فعلم صلى الله عليه و سلم أن له عند قومه شرفاً .. فقال له : وعلى قومك ؟ ... أي تدعوهم إلى الإسلام ؟ ... فقال ضماد : وعلى قومي .. ثم ذهب ضماد إلى قومه هادياً داعياً ... هكذا أنصت صلى الله عليه و سلم لكلام ضماد (التفه) فكانت النتيجة أن أنصت ضماد بدوره بل و تقبل الرسالة الخالدة بكل سرور و قناعة و ارتياح!....
إذا كنت تريد ان ينفض الناس من حولك و يسخروا منك عند ما توليهم ظهرك فهاك الوصفة: لا تعطي أحدا فرصة للحديث ... تكلم بغير انقطاع عن نفسك و إذا خطرت لك فكرة بينما غيرك يتحدث فلا تنتظر حتى يتم حديثه ..... قاطعه على الفور.... إنه ليس ذكيا مثلك فلماذا تضيع وقتك في الاستماع الى حديثه السخيف؟! اقتحم عليه الحديث و اعترضه في منتصف كلامه!! ... بهذه الوصفة تستطيع أن تتأكد أن أحدا لن يستمع إليك و لن يلقي بالا لحديثك مهما كان منطقيا ممتلئا علما و حكمة... إنها حالة شبيهة بقانون "كما تدين تدان"...
ثمة قانون يعمل بشكل جيد في الطبيعة البشرية عموما ... تعبر عن هذا القانون الصيغة التالية " أنت أولا" تؤدي الى "بل أنت أولا" و "أنا أولا" تؤدي الى "بل أنا أولا" إنه قانون الإيثار المتبادل... جربوا هذا القانون مع أسركم و أصدقائكم و من يحيطون بكم... أعطوهم الأولوية على أنفسكم في كل شيء و ستجدون أنهم يصرون على أنكم أنتم من له الأولوية في كل شيء... و العكس و بالعكس... استمعوا إليهم بشكل جيد و فعّال و ستجدون أنهم مستعدون للاستماع إليكم بل و التجاوب الإيجابي معكم... و عندما يكون العكس فستجدون العكس بالتمام و الكمال... و هكذا...
نحن بحاجة إلى تعلم و ممارسة مهارة الإنصات الفعال لأنه: سنة نبوية و خلق رفيع و حضاري ... و لكي نفهم ثم نتفاعل إيجابيا مع محدثينا ... و لكي نخلق جوا مناسبا ليفهم عنا مستمعونا ...
و نحن بحاجة إلى تعلم و ممارسة مهارة الإنصات الفعال في أوقات و أماكن كثيرة: في احضان الأسرة : مع الزوج ... الأبناء ... الوالدين ... الأقارب ... و في العمل: مع الرؤساء و مع المرؤوسين أيضا ... و مع المجتمع عموما: الزملاء- الاصدقاء - المعارف-الغرباء ...
متى يقع الإنصات؟
يقع الإنصات عند نقل رسالة تحوي معلومات من مرسل إلى مستقبل في بيئة تخلو من الضوضاء و تشجع على الاسترجاع...
و الرسالة : هي ما يتم نقله ... المعلومات : هي كلما يزيل الغموض و عدم اليقين في الرسالة... المصدر: هو مرسل الرسالة... و المستقبل: هو الشخص الذي يتلقاها ... أما البيئة : فهي مجموعة الظروف و الأوضاع التي يتم الاستماع في إطارها... الضوضاء: هي أي شيء يعيق تدفق المعلومات بسلاسة بين المرسل و المستقبل .... التغذية الاسترجاعية : استجابة المستقبل...
من واجبنا كمتحدثين أن نساعد المستمعين و ذلك من خلال العناية بما يقال و يتحدث عنه و العناية بالأسلوب .. و إذا كنا منصتين فسيكون من واجبنا كمنصتين جيدين أن نستمع بصدر رحب و عقل متفتح لما يقوله المتحدث و أن لا نفقد التركيز و الانتباه و أن نركز على المعلومات التي يتم تقديمها بدل التفكير في الشكليات أو الانجرار وراء الخلفيات ... و اذا لم نفهم الرسالة بشكل جيد فسيكون من واجبنا أن نطلب من المتحدث أن يكرر أو يشرح ما يقصده بالضبط ... و للتأكد من فهم الرسالة يمكن أن نعيدها على المتحدث ثم نسأله هل ما أعدناه هو ما قصده بالضبط...
كيف لنا أن نتعلم فن الإنصات؟...
1-نتعمد الإنصات: حاول في بعض المواقف أن تقاوم رغبتك الجامحة في التحدث مفسحا المجال للآخرين ليتحدثوا ... إنه الإنصات المقصود المتعمد...
2-نمنع عقولنا و أفكارنا عن الشرود و ذلك بالتركيز على ما نسمع....
3-نركز على ما يقال بدل من الذي يقول... أي نقاوم عوامل الإلهاء ...
الله سبحان و تعالى خلق للإنسان أذنين و لسانا واحدا و مع ذلك فإن الغالبية منا تتحدث أضعاف ما تنصت و تستمع!... و خلق له شفتين و يسر له بهما وسيلة إمساك لسانه و ضبط حركته و مع ذلك نجد صعوبة بالغة في إطباق شفتينا و ابقاء ألسنتهنا دون كلام !...
الكلمة مسؤولية:
الرسول صلى الله عليه و سلم ينبهنا الى خطر اللسان و حصاده من الكلام إن لم يكن خيرا... فعن معاذ - رضي الله عنه - قال : قلت : يا رسول الله ... أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني عن النار ... قال : " لقد سألت عن أمر عظيم ، وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه : تعبد الله ولا تشرك به شيئا ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان " ، ثم قال : " ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار ، وصلاة الرجل في جوف الليل " .. ثم تلا : (تتجافى جنوبهم عن المضاجع ) حتى بلغ (يعملون) ، ثم قال : " ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ " قلت : بلى يا رسول الله ، قال : " رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد " ، ثم قال : " ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ " قلت : بلى يا نبي الله ، فأخذ بلسانه فقال : " كف عليك هذا . فقلت : يا نبي الله ، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال : ثكلتك أمك يا معاذ ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم ؟ " رواه أحمد والترمذي و ابن ماجه .
من المفارقات الغريبة في منظومتنا التعليمية أننا نتعلم منذ الصغر مبادئ التواصل و التفاعل من خلال الكتابة و القراءة و التحدث و لكننا لا نتعلم شيئا عن مهارة الإنصات كوسيلة إتصال! ... إننا نتربى منذ الصغر على ثقافة تشجع الكلام و تتجاهل الإنصات كوسيلة مهمة للتواصل و التفاعل مع المحيط... و النتيجة أن حالة التفاهم المجتمعي تزداد سوءا و تأزما على مستوى الأسرة بين افرادها ... و على مستوى الدولة و مواطنيها... و على مستوى المؤسسات العامة و الخاصة و عمالها ... لا أحد يريد أن يسمع من أحد!... الأب يتحدث... الأم تتحدث... الأبناء يتحدثون... الدولة تتحدث... الاحزاب تتحدث... المديرون يتحدثون... العمال يتحدثون.... كل واجد في واد بينما الآخرون في واد آخر!... لا أحد يريد أن ينصت لأحد و إن أنصت فهو لا يفعل ذلك بهدف الفهم عن محدثه بل بهدف تجهيز الرد... و الإيقاع به بين العالمين و هذا بالضبط ما يجعل من الإنصات عندنا –إن حصل- جهدا عديم الجدوى... لقد تحولت حياتنا فيما يتعلق بالإنصات الى حلقات مملة من مسلسل "الاتجاه العاكس" المشهور!... سواء في ذلك الذين يتكلمون و الذين ي قرؤون... فالذين يقرؤون أيضا يفعلون ذلك لتسفيه الكتابات و نسفها بما تيسر لا لفهمها و استيعابها و الاستفادة مما قد تحويه من فائدة.
هدف الإنصات- أيها السادة- هو فهم وجهة النظر الأخرى... هو رؤية الأمور بمنظار آخر... هذا باختصار ... و خير الكلام ما قلّ و دلّ.