يقول صاحب شركة آبل كمبيوتر : كثيرون يسألونني قائلين : "نريد إنشاء مؤسسة فبماذا تنصحنا"... و دائما يكون سؤالي الأول لهؤلاء: ما الذي تودون فعله في مؤسستكم المؤملة ؟... و يجيب معظمهم ب"لا اعرف"... و هنا تكون نصيحتي الصريحة لهؤلاء هي: "اذهبوا و اعملوا بغسل الصحون في احد المطاعم إلى أن يتضح لكم ما الذي ستفعلونه في مؤسستكم المؤملة"! ... بالفعل... لا يوجد موقع أفضل من مكان غسل الصحون في أحد المطاعم لأمثال هؤلاء الذين لا يمتلكون رؤية و لا تصورا واضحا لما يجب عليهم أن يفعلوه في مؤسساتهم ... أليس كذلك؟...
لا ضرر أشد على المؤسسات من ذلك الذي يلحقهم بسبب ضيق أفق من يمسك بزمام الأمر في هذه المؤسسات... المسؤول الذي ينظر إلى موقع قدميه باستمرار فلا يرى هناك إلا شراك نعليه هو الكارثة بعينها... إنه يمضي معظم وقته متخبطا خبط عشواء- يتقدم إن تقدم- خطوة و يتأخر خطوتين... و بإمكانه –و هذه تعد للشطار فقط- تحويل الحياة إلى جحيم من المشاكل و المطبات و الكوارث ليظهر بعدها في صورة البطل الأسطوري الذي يتصدى للصعاب و يحل الأزمات بعد أن ينسبها لغيره !...
المؤسسة التي نعني–حتى لا يذهب بنا أحدهم مذهبا يخصه- قد تكون دولة و قد تكون حزبا و قد تكون شركة أو منظمة مدنية... فحاجتها كلها إلى قائد نيّر البصيرة ثاقب النظر كحاجة الإنسان إلى عينيه أو إلى من يقوده في سبيله...
هل رأيتم دولا منهارة... أحزابا كرتونية... شركات فاشلة ؟ ... ابحثوا عن السبب ... ستجدونه المسؤول الأول في تلك المؤسسات و ستجدون -بعد قص أثره- أن الأقدار قد قذفت به الى موقع القيادة دون أن تكون لديه فكرة متكاملة عما يتوجب على الرأس أن يفعله!... هل تريدون أمثلة حيّة على هذا الكلام؟... سأترك لكم تلك المهمة السهلة... إذ لا داعي لتضييع أوقاتكم الثمينة بسرد لائحة مشاهير الفاشلين الذين يمالئ بهم الزمان و المكان.
لقد كانت رؤية يوسف –عليه السلام- للمهمة واضحة له و قد بسطها للملك قبل أن يتقلد المسؤولية: "قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ** ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون ** ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون"... لقد بدا مشهد ما يلزم فعله واضحا... ثم بين –عليه السلام- للملك ما علم من نفسه من صفات تضمن قيامه بالمهمة على أحسن وجه و أكمل حال "قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم" ... حفيظ لما استودعتني و عليم بما وليتني... و تلك هي أصول المسؤولية و ما سواها فرع عنها.
في غياب الأصول التي على أساسها تمنح المسؤولية و تسند المهمة تسود قيم أخرى –إن صحت تسميتها بالقيم- كالقرابة و الجهة و العرق و اللون و –حتى- الإيديولوجيا حيث لا أهمية لتصور المرء عن ما يتوجب عليه فعله ... فذلك عندهم هو آخر ما يجب أن يفكر فيه المرء إن فكر... هنا يكون الأمر قد أسند إلى غير أهله فتضطرب سنن الحياة و يظهر الفساد بالبر و البحر بما كسبت أيدي الناس...
نصيحتي للذين يقومون بمهمة التعيين في وزاراتهم و مؤسساتهم و-حتى- للذين يكتتبون عمالا في بيوتهم هي أن يسألوا مرشحيهم دائما: "ما الذي تودون فعله بعد أن تتقلدون المسؤولية المعروضة عليكم؟"... اتركوهم يتحدثون عن ذلك بكل إسهاب و تفصيل ثم قيموا الأمر و لا تخافوا أن يمثّل عليكم أحد «فليست النائحة المستأجرة كالنائحة الثكلى"... ما لم يكن ذلك فإننا مؤسساتنا ستواصل الاكتظاظ بقصيري النظر مرضى طمس البصيرة الذين لا يعرفون لماذا هم هنا بالضبط و ليسوا هناك أو هنالك !...
الذي لا يمتلك رؤية واضحة لما سيفعله لن ينزل عليه بها وحي و هو تحت التجربة بل سيكون فعله حينها حبط عشواء من تصب تمته... لذلك سيكون من الرحمة و الرفق بالناس و به أيضا إحالته بشكل مؤقت-أو دائم إن لزم الأمر- إلى موقع شبيه بمكان غسل الصحون إلى حين ... فالخبط في ذلك المكان –إن لم يكن منه بد- سيكون أقل تكلفة و أخفّ ضررا على كل حال...
و خير الكلام ما قل و دل.
د. محمد محمود سيدينا.
____________________________________
ملاحظة:
الكتابات أوالآراء الواردة في الموقع لا تمثل بالضرورة وجهة نظر الموقع وإنما تمثل وجهات نظر أصحابها.