عندما نفكر فيما آلت إليه أساليب التعبير عن الآراء ووجهات النظر، فإن الصورة تبدو قاتمة ومزعجة إلى حد كبير. فثمة إفراط غير مسبوق فى الرغبة فى إبداء الرأى بخصوص أى قضية وفى أى موضوع مهما كانت طبيعته: سياسى أو اقتصادى أو علمى أو دينى أو حتى شخصى. فكل حدث وكل موضوع أصبح قابلا للاشتعال وإثارة العراك والشقاق، وكأن الخلاف هو الهدف بغض النظر عن مضمون وطبيعة ما يتم الخلاف بشأنه. ورغم تشظى الآراء وتناثرها إلا أنها تشكل فى مجملها ما يشبه الموجات المتلاحقة بفعل القدرة الفائقة على التواصل والاتصال.
وعلى سطح هذه الموجات تطفو كل القضايا والموضوعات، سواء تلك التى لا قيمة لها، أو تلك التى لا تعنينا، أو قضايا مصيرية لم تعد مهمة إلا من زاوية قدرتها على إثارة الخلافات وإبراز الاستقطابات. وبشكل عام، لا توجد قاعدة أو معايير لما هو ثانوى أو أساسى، فثمة قضايا لا تعنينا تصبح فى غاية الأهمية فقط لأنها قابلة للاشتعال، ومنها أمور شخصية لا تهم الرأى العام من بعيد أو قريب، وثمة قضايا على قدر كبير من الأهمية، يجرى التعامل معها باستخفاف، وتضيع ملامحها خلف سحب الدخان المنبعثة من خلافات ليس لها علاقة بأصل الموضوع. وقد يرى البعض أنه على الرغم من مساوئ هذه الحالة الخلافية، إلا أنها حالة صحية ومطلوبة لأنها تعكس الاختلاف فى وجهات النظر، وهذا أمر مطلوب. ومع ذلك، يجب أن نوضح أن هناك فرق بين “الخلاف” و”الاختلاف”، ففى حين أن الكلمتين لهما المعنى ذاته، وهو عدم الاتفاق أو التضاد، فإن من معانى كلمة “خلاف” النزاع والخصومة، وهو ما ليس فى معانى كلمة “اختلاف”. وغالبا ما نقول أن “الاختلاف” – وليس الخلاف- لا يفسد للود قضية. وثمة جهود مضنية يبذلها أهل الفكر من أجل حث المختلفين على قبول الاختلاف لتفادى مآسى الخلاف. ولذا فقد أصبحت كلمة اختلاف محايدة لا تعنى بالضرورة الاستقطاب أو التضاد بقدر ما تعنى التنوع، وبما أنها كذلك فقد تكون مصدرا للثراء كما قد تكون مصدرا للشقاء. فقد نختلف على أمر بدون أن نتحول إلى الخصومة والحرب،
وقد نختلف حول السبل ونتفق بشأن النتائج، وقد يسهم المختلفون فى إضاءة جوانب مختلفة من الموضوع محل الاختلاف. ولكن عندما يسقط الاختلاف فى دوامة الخلاف ولا يبرحها، فلن يكون إلا أداة فى ساحة الحرب التى نعيشها وتفضى فى أغلب الأحيان إلى غياب الموضوع وفقدان الموضوعية والتكفير والتخوين والسخرية من كل شئ ومن لا شئ. ولا يتضمن هذا القول أى نوع من التعميم، لأن هناك دائما الكثير من الآراء التى تحرص على الموضوعية وإلقاء الضوء على القضايا والأحداث بدون تشنج أو عصبية أو تهكم، ولكن المشكلة أن الكثير من الآراء الموضوعية لا تصمد أمام التيارات الجارفة التى لا يعنيها الفهم بقدر ما تحركها رغبة محمومة نحو الاندفاع والاشتباك والتلاطم. وتمتلك هذه التيارات قدرة هائلة على الاستمرار وإعادة إنتاج ذاتها بحيث يصعب السيطرة عليها. وبفعل قدرتها هذه فإنها قد تجعل من أكثر الآراء تفاهة ولا عقلانية الأكثر جاذبية، لأنها الأقل كثافة، ومن ثم الأكثر قابلية لأن تطفو على السطح.
وبقدر ما ننخرط فى متابعة الأحداث والأخبار من خلال شاشات التلفزيون أو الكومبيوتر أو الهاتف بقدر ما نشعر بالإجهاد الفكرى أو النفسى، وعندها فقط نبحث عن طوق نجاة للخروج من مسارات باتت بلا معنى، فنتوقف عن رؤية ما نراه، أملا فى أن نرى ما لا نراه