وجود أكثر من انتماء لدى الإنسان شيءٌ طبيعي، فمحصّل العلاقات الاجتماعية والفكرية هو تكوين مجموعةٍ من الانتماءات التي تشكّل في مجملها هوية الفرد، لكن غير الطبيعي هو طغيان أحدها على الانتماء الأعم والأهم وهو الانتماء للوطن. هذا الحدث لا ينتج إلا عند تقصيرالحكومةٍ في أداء مهمتها الوطنية على الوجه المطلوب، وفوق ذلك غياب قانونٍ عادل يحمي المواطن من أيَّ اعتداء على حريته وكرامته سواءً، كان من قبل الفردٍ أو الحكومة.
فشل المؤسسات الحكومية في توفير حياةٍ كريمةٍ وخدماتٍ تتصف بالشمولية والمساواة والعدالة وسهولة الحصول عليها يساهم في تقليص نسبة الانتماء الوطني أمام الانتماءات الأخرى، ويسمح بصعود انتماءات بديلة يبحث فيها المواطن عن بديلٍ لتعويض هذا القصور، وينشد فيها الأمان والرضا الاجتماعي، والحصول على خدماتٍ وامتيازات لا يمكن الوصول إليها إلا عبر هذه الطرق الجانبية.
صعود الانتماءات المناطقية والقبلية والحزبية فوق الانتماء الوطني هو أحد المؤشرات التي تدق أجراس الخطر في أي دولة، فهي أولى الخيارات التي يستخدمها العدو الخارجي لتفتيت لحمة أي وطن وتقسيمه إلى كانتونات عنصرية متصارعة. ورغم بدهية هذه الجزئية إلا أن حكومتنا تفشل في استيعابها، وتمارس قبل العدو دورًا تفكيكيًّا لتماسك وطنها بتطبيق سياسة “فرّق تسد”، فتشعر هذه الحكومة بالنشوة السلطوية عند لجوء المنتمين المتصارعين إليها لحل نزاعاتهم التي تغذيها بسياسات إعلامية وتعبوية خاطئة، ويغيب عن هذه الحكومة أنّ كرسي عرشها يقف على أرضٍ هشّة مجزأة ستتصدع مع أقل درجة من أقرب زلزال عابر. وسيكون الخاسر الأول هو الوطن، فالحكومة التي فوق أرضى تتغير –كما هي سنة الله في مداولة الأيام- لكن تأثيرات سياساتها الخاطئة تظلّ تنخر في جسد الوطن حتى تمزّقه.
من مظاهر صعود الانتماءات البديلة اقتصار الوظائف والمناصب القيادية على مجموعاتٍ مناطقية أو حزبية، وتوجيه اللوم للقبيلة بدل الحكومة على فقر أحد أفرادها، وانتشار ظاهرة الافتخار القبلي أكثر من الوطني، والولاءات الخارجية لدول ذات سياسات معادية للوطن ومن السهل على أي راصد لحركة المجتمع التقاط الأمثلة على هذه المظاهر؛ فهي تشكّل ظاهرة أكثر من كونها حالات استثنائية، وأصبحت تمارس علنًا في ظل صمتٍ وعجز عن توفير بيئة جاذبة تمتاز بالرفاه المعيشي والحرية والكرامة التي تجعل المنتمي إليها ينبذ جميع ما عداها من الانتماءات.
وحتى يكون الانتماء الوطني هو الأساس فإنه لا بد أن يحقق -عبر المؤسسات الحكومية- واجبات العدالة والمساواة، وهذا ما تقوم على أساسه الحكومة المدنية. وهي بذلك تكون المرجعية لكل المنتمين بلا استثناء. وأكبر مثالٍ على الوطنية المدنية بذرة الدولة الإسلامية الأولى عندما كان اليهود يتعايشون بسلامٍ مع المسلمين في المدينة، وكان يحكم علاقتهم عهد وميثاق، أو بالمصطلحات الحالية “دستور” كتبت بنوده في صحيفة المدينة وجاء فيه: “وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته”. وفيما يخص الولاء الوطني: “وأنّ بينهم النصر على من دهم يثرب” وأما القانون فهو: “وأنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو شجار يخاف فساده فإنّ مردّه إلى الله، وإلى محمد رسول الله”. ولم يكن قرار طردهم بسبب طبيعة دينهم بل تغليبهم هذا الانتماء الديني على الانتماء الوطني بخيانتهم للوطن والوقوف في صف أعدائه ليحتلوه.
هذه الوطنية المدنية التي كانت موجودة منذ فجر الإسلام هي الشكل الحضاري الذي تطمح لتطبيقه دول الرفاهية في العصر الحالي. وهو الخيار الأمثل لبناء مجتمع سليم متماسك انتماؤه الأكبر للوطن يذيب كل انتماء آخر.
____________________________________
ملاحظة:
الآراء الواردة في الموقع لا تمثل بالضرورة وجهة نظر الموقع وإنما تمثل وجهات نظر أصحابها.