في البدء دعونا-بمناسبة السنة الدراسية الجديدة- نهّنئ و نحيّي كل المربيين و المعلمين و الأساتذة و كل الإداريين القائمين على منظومتنا التربوية التعليمية إعدادا و تنفيذا... نتمنى لهم التوفيق و السداد و النجاح في مهمتهم النبيلة و نشكرهم على مثابرتهم و صبرهم أللّا محدود على منظومتنا التربوية التعليمية المتهالكة... فلولا صبرهم و تضحياتهم ما كان يكون لمثلي-مثلا- أن يكون في موقع يسمح له بكتابة مثل هذه السطور!... فلست في واقع الأمر سوى ثمرة من ثمرات صبرهم و مثابرتهم عبر السنين … فتحية شكر و تقدير مستحقة لهم منا جميعا... بعد ذلك أستسمحهم- و هم أساتذتي الأفاضل- في أن أتقاسم معهم بعض الخواطر و الأفكار و الرؤى المتعلقة بمنظومتنا التربوية التعليمية و نحن على أبواب سنة دراسية جديدة بعد "سنة تعليم" وطنية تم إعلانها رسميا سنة 2015.
و بعد...
فمن الأمور المتفق عليها بين خبراء الاجتماع ان مدى التقدم و التحضر في الأمم يرتبط سلبا و إيجابا بنسبة المتعلمين في تلك الأمم ...فحيث ما حلت الأمية وحط الجهل رحاله يجد الفقر و التخلف البيئة المناسبة للتكاثر و الازدهار و الانتشار… وعادة في مثل هذه البيئة الاجتماعية المليئة بالجهل و التخلف:
1-تكثر الخلافات على الأمور التافهة و تنتشر الفتن و بالتالي تهتز أسس السلم الاجتماعي و تحدث الحروب الأهلية التي تأتي على الأخضر و اليابس لأسباب تافهة لا يقرها عقل و لا دين مما يدمر العمران و يؤدي إلى الإفساد في الأرض التي أمر الله بعمرانها و الإصلاح فيها بدل الإفساد.
2-تنقلب المعايير رأسا على عقب فيحدث التمايز على أساس القيم الفاسدة بدل القيم التي تقررت دينا و عقلا عبر تاريخ الإنسانية الطويل... فتسود –في مثل هذه الظروف-قيمة اللون و العرق و الطبقة و الجهة و حتى الشكل بدل قيمة الإصلاح و الصدق و الأمانة و القوة و الصلاح و التفاني و الإخلاص و الإيثار ....
3-تفسد الأخلاق و تنهار القيم (و قد صدق أحمد شوقي إذ قال: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت*** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا) و عندئذ تنتشر الفواحش و الرذائل و يختفي الطهر و العفاف و النقاء ...فتنشر المخدرات و كل انواع المؤثرات العقلية مما يؤدي الى تهديد المجتمع في أمنه و معاشه وهكذا تنهار الحياة الإنسانية و تهوى أسفل سافلين...
و العكس يحدث في المجتمعات المتعلمة ... ففيها تسود قيم الفطرة الأصيلة ("فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ"-الروم -30 ) فينسجم المجتمع و تشيع فيه قيم التعايش و السلم الاجتماعي ويحترم الإنسان لأخيه الإنسان حقه في الحياة بحرية و كرامة على ارض الله.... وصدق الله العظيم: إذ يقول –سبحانه-: ("... قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ"- الزمر-9.)
لقد تنبهت أمم كثيرة الى هذه الحقيقة فجندت طاقاتها المادية و البشرية في سبيل نشر العلم و جعل طلبه و تحصيله ثقافة أصيلة مغروسة في كيان كل مواطن و وجدانه منذ نعومة أظافره... فلا غرو أن نجد مثل هذه الأمم تدير العالم و تدبر شأنه سياسة و اقتصادا و صناعة رغم ضحالة مواردها و كنوز بعضها من الذهب و الفضة و الحديد و النفط ... و العكس تماما تراه في مجتمعات التخلف و الأمية و الجهل ... إنهم يعيشون خارج إطار الزمن و التاريخ... و خارج إطار الجغرافيا أيضا!... يعيشون عالم الخرافات و الأوهام ... يعيشون على نفايات و فضلات و صدقات العالم المتحضر.... هذه المجتمعات البائسة تعيش على الأوهام ... فحروبها و معاركها غالبا ما تكون وهمية ... و تصوراتها عن الحياة و الكون مشوهة و قيمها الاجتماعية مقلوبة معكوسة .... في هذه المجتمعات البائسة تولد البطالة و يتكاثر الكسل و يقل الإنتاج و تنمو وتزدهر كل الأوبئة و الأمراض الاجتماعية بكل أنواعها المعنوية و المادية... و فيها يموت الأمل و ينعدم الطموح ... في مجتمعات الجهل- هذه - لا قيمة و لا مكانة مرموقة للعلم او لمؤسساته و لا لمن يعلمه و يلقنه للناشئة... لأن هذه المجتمعات قد أنتجت ثقافة تهين و تحتقر المؤسسات العلمية ومن يعلم و يتعلم فيها على السواء... و كان من نتيجة هذه الثقافة البائسة:
1-انتشار المؤسسات التعليمية-الرسمية منها و الخاصة- الفاشلة انتشار الحوانيت المنزلية ... فلكل من هب او دب أن يفتح مدرسة آو روضة بهدف الربح حيث لا توجد برامج متميزة و لا توجد ضوابط تضمن الحد الأدنى من جودة التعليم ... و النتيجة ان تفشل مثل هذه المؤسسات بعد حين و يفشل الطالب و تنهار معنوياته و يترسخ لديه كره التعلم والتمدرس ... والنتيجة الأخرى هي ان يهجر الأطفال المدارس و يلجئوا إلى الشوارع ثم –لاحقا- يجدون أنفسهم فريسة للمسلكيات المنحرفة كالمخدرات و أوكار الرذيلة و الفساد الأخلاقي و منظمات التظرف و الإرهاب...
2-ضياع و تيه المربي و المعلم ... فلا المجتمع يحترمه أو يقدره ... و لا المؤسسات التعليمية توفر له كريم العيش ... و النتيجة أن ضاع المربي تطوافا بين البيوتات الميسورة بحثا عن أجرة حصة او حصتين لسد حاجاته المادية ... لقد ضاع في مجتمع تنكر لقاعد" العلم يؤتى إليه" التي سادت يوما ما... في ذلك الزمان كان الطالب يحلم ان يكون أستاذا مربيا أما في أيامنا العجاف –هذه- فلا احد يتمنى لنفسه او لولده أو لغيره أن يكون معلما مربيا...
هذه اللوحة الكارثية التي نشاهدها و نعيشها في حيتنا تدعونا بجد الى مراجعة منظومتنا التربوية التعليمية -و على جناح السرعة- إنقاذا لما يمكن إنقاذه من ناحية و تأسيسا لمستقبل واعد و زاهر لأجيالنا المقبلة من ناحية أخرى.
محاور المراجعة الكبرى:
من اجل إعادة الأمور إلى نصابها و انطلاقا من القناعة بأهمية الرعاية و التأهيل و التربية و التعليم في المرحلة العمرية المبكرة و استنادا إلى ما أثبتته معظم بحوث و دراسات التنمية البشرية من أن معظم القيم و المبادئ التي تحدث تأثيرا بالغا في حياة الإنسان يتم تلقيها و غرسها في المراحل الأولى من حياته ... و بإلقاء نظرة عابرة على واقع التعليم في هذا البلد سنرى أننا بحاجة ماسة إلى مشروع مراجعة جريء لأصول منظومة منهاجنا التربوي التعليمي ... مراجعة جريئة في أبعادها كلها .. جريئة في إطار التصور و الخيال ... و جريئة في فرض قيم جديدة و إرساء قواعد جديدة و ثقافة مختلفة ... و جريئة في حشد الإمكانات البشرية و المادية ... و جريئة في تحدي الثقافة السائدة ... و جريئة حتى في خطابها و عناوينها و رسالتها و رؤيتها و أهدافها... لأنه –كما قد قيل- "لا يمكن حل المشاكل المزمنة بنفس العقلية التي أنتجت تلك المشاكل"... لا بد من تغيير العقليات إذن... هذه المراجعة بتلك الموصفات ستنطلق دون شك من المحاور الرئيسية التالية:
أولا : محور الرؤية و الرسالة
هنا لا بد من تحديد رسالة واضحة المعالم و تثبيت رؤية طموحة للتربية و التعليم تقدم للطالب زادا و رصيدا تربويا و علميا و ثقافيا كفيلا بنجاحه و تميزه في مراحل حياته العلمية المتبقية بإذن الله تعالى...( قال صلى الله عليه و سلم : "ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول أبو هريرة -رضي الله عنه- فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم"-البخاري و مسلم)... و ذلك من خلال تربية جيل جديد من الشباب و الشابات قادر و ملتزم و منفتح:
• قادر على القيادة في مختلف مجالات الحياة المعاصرة و لديه الكفاءة العلمية و الفاعلية لمواجهة تحديات الحاضر و المستقبل ...
• ملتزم برسالة الأمة و شخصيتها الحضارية ... و واع لدوره و رسالته الكونية في عمران الأرض و جلب الخير و درء الفساد ....
• منفتح على العالم و ما فيه من إيجابيات في جو من التسامح و التفاعل الإيجابي بما يخدم التعارف بين الشعوب و يدعم السلم و التعايش المشترك بين العالمين ....
ثانيا : محور اللغات
لست بحاجة الى بيان أهمية تعلم اللغات ... فهي الوسيط أو الحامل الذي يوصل المعاني و التصورات الى ذهن و عقل كل متعلم... لا علم إذن بدون لغة... لذلك كان تكريم الله سبحانه لنبيه أبينا آدم عليه السلام أن علمه الأسماء كلها و بذلك فضل و تفوق عند الامتحان... فلا بد لأي عمل تربوي جاد أن يعطي عناية قصوى لتعليم اللغات و خاصة منها الحية التي يكتب بها العلم و السياسة و الاقتصاد ... هذه اللغات لا بد أن تتعلم بشكل جيد... أما التعليم فيجب أن يكون بلغة الطالب الأم... من الخطأ الفادح في التربية أن يتلقى الطالب مبادئ العلم الأولى بلغة أجنية... إن ذلك سيترك لديه فجوة في الفهم مدى الحياة!... ثمة –مثلا- فرق شاسع بين فهم الناطق بالعربية لكلمة "محرك" و فهمه لكلمة "Moteur" …الأولى تذهب به في عالم وافر من معاني الحركة و الطاقة و وفرة الفعل... و الثانية لا تتجاوز به قطعة صماء تدور لتجعل منشأة أو سيارة أو قطارا يتحرك... و هكذا فمبادئ العلم الأولى يلزم أن يتم تلقينها بلغة الطفل الأم... و هذا ما تفعله كل الأمم و الشعوب الواعية تقريبا... بأي لغة يدرس اليابانيون؟.... و بأي لغة يدرس الروس؟... و بأي لغة يدرس الإيرانيون؟ و الصينيون؟... لا يعني ذلك أنهم يجهلون أو يقاطعون لغات العالم الحية ... كلا... كلا... هذه تدرس بكل اهتمام و عناية أما التدريس فيكون بلغة الطفل الأم... لذلك أي مشروع يراد له الفلاح و النجاح و الديمومة و الاستمرار لا بد أن يأخذ هذه القضية بعين الاعتبار... قصة التعليم المزدوج بمعنى أنه للطالب أن يدرس حسب رغبته بالعربية أو الفرنسية هي خرافة رديئة تماما كقصة تدريس المواد الأدبية بالعربية و تدريس المواد العلمية بالفرنسية... يجب أن يتوقف مسلسل إفشال مستقبل التعليم بهذه الطريفة الفجة.. .أيها السادة لا يمكن أن يقف المرء وقفة سوية و هو يضع قدما في السماء و قدما على الأرض... على المرء أن يختار بين السماء و الأرض... و الأسلم له أن يقف بقدميه على الأرض ف"مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى"... لا مناص من جعل اللغة العربية لغة التعليم في هذا البلد هذا إن كنا نريد لمعضلة التعليم أن تحل بشكل جذري و نهائي أقول ذلك بعيدا عن كل الحساسيات و المشادات و الترهات المفتعلة حول الموضوع.
ثانيا: محور البرامج الوطنية
البرامج الوطنية هي العمود الفقري للتعليم في كل بلد... لكن هذه البرامج بحاجة الى مراجعة و تحديث دائمين... فالحياة في تغير و تطور مستمر و العلوم أيضا تتطور من خلال ظهور نظريات علمية جديدة و إخفاء أخرى أضحت عتيقة... عالم التقنيات و البرمجيات يحدث ثورة علمية كل ثانية و هذا ما يجعل عملية الصيانة المستمرة للبرامج ضرورة لا خيارا... ثم إن الأساليب و المناهج التعليمية التربوية هي الأخرى تنموا و تتطور على مدار الساعة و هو ما يجعل الجمود على النظريات و الأساليب التربوية العتيقة مؤد الى فشل ذريع للعملية التعليمية برمتها... و صيانة المناهج تعني عملية إخراج و عملية إدخال أو إضافة بشكل متزامن تقريبا ... بمعنى إخراج ما تجاوزه الزمن و إدخال الجديد الذي يستجيب لحاجيات و ضروريات الحياة حاضرا و مستقبلا... و لابد أيضا من مواكبة التطور في الوسائل و الأدوات... في القرن الواحد و العشرين يدور الحديث عن السبورات الالكترونية و عن الألواح و الدفاتر الالكترونية أيضا ... لم يعد مقبولا أن يحمل الطفل على طهره جيئة و ذهابا أحمالا من الدفاتر و الكتب... يكفي أن يكون بحوزته جهاز "آي باد"- بطول شبر و عرض نصف شبر -مثلا- فيه كتبه و دفاتره و لوحاته و رسومه و أقلامه و خططه و برامجه و ألعابه ... تلك هي عدة المستقبل أيها السادة المربون... إننا اليوم في عالم البرامج و التطبيقات الالكترونية و لا ندري ما الذي سيطالعنا به الغد!... في كل الأحوال لن ينتظرنا أحد إما أن نلحق أو نبقى تائهين على الأثر ... و إما أن نعيش على فضلات و نفايات و مكبات و صدقات العالم المتقدم أو نزيد من سرعتنا و كفاءتنا لنلحق و ننافس... هل تجدون لنا خيارا آخر؟...
رابعا: محور البرامج التكوينية و التأهيلية
في هذا العصر دخل علم التنمية البشرية بقوة منظومات التعليم و التربية في كثير من دول العالم ... إنه فن تعلم مهارات الحياة...فن عالم التميز و النجاح... علم جوهره " اللهم اجعل يومنا خيرا من أمسنا و اجعل غدنا خيرا من يومنا"... إنه علم و ثقافة التطوير المستمر... لقد أدخل هذا العلم في مناهج الدول المتقدمة في أربعينيات القرن الماضي منذ أيام ديل كارني الأولى ... أما عندنا فمازال من كماليات التعلم إذ لا يحظى به إلا ذو حظ عظيم... هل تعلّم أو سمع أحد منكم شيئا في مدرسته الأولى عن مهارة الخطابة أو الحوار أو الاستماع و الإنصات أو كيف يكسب الأصدقاء و يؤثر في الناس أو كيف ينظم وقته و يوقف الفوضى في حياته أو كيف يصبح مبدعا أو كيف يلتهم كتابا في ساعة أو كيف يصمم خطة شخصية و خطة لمؤسسته أو كيف يحل المشاكل المزمنة التي تعصف بحياته أو كيف يختار تخصصه و مهنته للمستقبل؟ ... أنا لم أسمع شيئا من كل ذلك إلا بعد أن تخرجت لأتفاجأ بأنه علي أن أذهب من جديد الى مدارس محو الأمية في هذه المواضيع!... و الآن –وهذا مؤسف- أعتقد أنه لو كانت أتيحت لنا فرصة تعلم هذا الفن مبكرا لكان لمسيرتنا العلمية و المهنية سبيل آخر!!... أليس كذلك؟... إذن لا بد للمدارس الجادة أن تضمّن برامجها جرعات –حسب الحاجة- مما تقدمه التنمية البشرية من مهارات حتى يتعلم طلابها أسلوب إدارة حياتهم و تطوير ذواتهم... بدل التخبط في الحياة و العيش وفق مبدأ الإصابة و الخطأ....
خامسا: محور البرامج التكميلية
دعونا نصطلح على تسمية هذا المحور ب"البرامج التكميلة" – و لا مشاحة في الاصطلاح- و إلا فهي أساس كل تعليم و جوهره... و السبب في هذه التسمية هو أن هذه البرامج مقصية –تقريبا- من برامجنا التربوية التعليمية... من هذه البرامج تعلم القرآن الكريم و علومه ... لا أتحدث هنا عن سور أو آيات إنما أتحدث عن كتاب الله من "الفاتحة" الى "الناس" حفظا و تجويدا و تفسيرا و أن يكون ذلك مقررا إلزاما في مراحل التمدرس الأولى... بذلك يتعلم الطالب منذ نعومة أظافره مبادئ العلم و أصوله من الأصل الأول لكل العلوم ... و بذلك تتشكل لديه مناعة طبيعية ضد عوامل التعرية في التصور و الفهم و في الأخلاق أيضا ... و بذلك يفهم مهمته و دوره في الحياة كخليفة في الأرض مسؤول عن عمارتها ... و به أيضا تتقلص الهوة بين المختصين في العلوم الشرعية و المختصين في العلوم و الفنون العلمية الأخرى... في واقع الأمر نحن نخوض مرحلتين خلال رحلتنا التربوية التعليمية مرحلة "أهلية" و مرحلة نظامية... فلماذا لا نوفر الوقت على أنفسنا بإنتاج منظومة متكاملة و بعد ذلك ليتخصص كل واحد فيما يناسبه؟... مؤسف أن نخبنا "المتعلمنة" تصر على إبقاء تدريس القرآن و علومه "أهليا" و ذلك تخوفا –حسب تفكيرهم غير المعلن- من الإرهاب و التطرف الديني... و يشاء الله أن تكون النتيجة عكسية!... إذ يقبل الناس على القرآن و علومه و بقية العلوم الشرعية بكل نهم و لكن مصادر التلقي في غالب الأحيان تكون غير مؤتمنة (الكتب-المقالات-الإنترنت-...) و من هنا يكون الفهم المنحرف للإسلام و النتيجة هي ما نشاهد عبر العالم من كوارث تتم باسم الإسلام و تحت راية القرآن...
من البرامج التكميلية تعليم بعض المتون المعتمدة في مختلف الفنون... في الفقه و التزكية و السيّر و اللغة و غيرها فهي سند قوي للطالب في رحلته العلمية الواعدة ... و من هذه البرامج التكميلية تعلم اللغات الوطنية كالبولارية و السونونكية و الألفية... ففي ذلك سند قوي للوحدة الوطنية و دعم قوي للسلم و التفاهم الاجتماعي... و هو ما يجب غرسه لدى الأطفال حتى تتعزز فيهم قيم الأخوة و التعارف و التعايش المشترك.
ندرك جميعا أن برامج التربية و التعليم لا بد أن تعنى بأمرين جوهريين: الأول منظومة القيم و المبادئ التي يؤمن بها المجتمع و تمثل رسالته و إطار حياته و ثانيا الحاجة في الفنون و المهارات و الحرف و الصناعات التي تحتاجها الحياة لكي تبنى و تستمر و تزدهر... أعتقد أن منظومتنا عرجاء باعتمادها – و هو اعتماد ناقص- على الأمر الثاني و إهمالها –إلا ما كان على استحياء- للأمر الأول.
عقبات على طريق النهوض بالتربية و التعليم
في حالتنا نستطيع رصد العقبات التالية على سبيل المثال لا الحصر:
1-الثقافة السائدة في المجتمع عن العلم و مؤسساته و القائمين عليه...
ما لم تمحى الصورة النمطية السيئة السائدة عن المؤسسات التعليمية و من يعلمون فيها فلا مستقبل و لا أمل في تعليم ناجح... مؤسسات التعليم أشرف و أهم من كل المؤسسات الأخرى و يجب أن تصان و تحفظ و ترعى بما فيه الكفاية... و المعلم هو من يغرس في الناس معنى الحياة و مبادئها الأولى فيجب أن يتلقى كل العناية و الرعاية و الاحترام و التبجيل ( و قد أحسن أحمد شوقي إذ يقول: قم للمعلم و فيه التبجيلا ***كاد المعلم أن يكون رسولا).
2-ضعف الطموح و ضيق الأفق لدي المعنيين بالعملية التعليمية...
على المربي أن يعلم أن رسالته أعظم و أشمل من كونه موظفا في مؤسسة هي مصدر راتبه الشهري... ما لم يكن لدى المربي وعي عميق بقدسية رسالته في الحياة فلا مستقبل و لا أمل في تعليم ناجح.
3- الإحباط الناتج من التجارب و السياسات التعليمية الفاشلة...
فما لم تقم تجارب ناجحة لمؤسسات ناجحة و جادة فلا مستقبل و لا أمل في تعليم ناجح.
4-عزوف رجال الأعمال و المستثمرين عن المساهمة في المشاريع التعليمية (الاستثمار في الإنسان)...
هؤلاء –و هذا مؤسف بحق- يفضلون الاستثمار في الإبل و الغنم و الخيل و البغال و الحمير ... على الاستثمار في الإنسان... بل لعلهم لا يفقهون كثيرا في "الاستثمار في الإنسان"!... إنهم لا يفهمون أن إنتاج المواطن الصالح المنضبط سيدر عليهم أرباحا مضاعفة من خلال العمال المهرة المتقنين لعملهم قناعة و اختيارا لا إكراها و من خلال شرطة مؤهلة و نزيهة و مسؤولة توفر لهم السكينة و الأمن بدل فرض الجزية و الإتاوات عليهم صباحا و مساء و من خلال قضاء مستقل و نزيه يحفظ لهم حقوقهم .... و هكذا...
5-شح الموارد المادية لدي المؤسسات المعنية بالعملية التعليمية التربوية...
ما لم يكن التعليم هو البند الأكثر مخصصا في ميزانية الدولة و ما لم تنشأ صناديق و أوقاف لدعم التعليم... و ما لم يعش القائمون على التربية و التعليم اكتفاء ماديا ذاتيا يحفظ لهم كرامتهم و يجنبهم التسوق على أبواب الناس فلا مستقبل و لا أمل في تعليم ناحج.
6-قلة الموارد البشرية الكفؤة القادرة على إدارة المؤسسات التعليمية بمواصفات الجودة الإدارية...
ما لم توجد الكوادر التعليمة المكونة و المدربة و المختارة وفق مواصفات علمية و أخلاقية دقيقة فلا مستقبل و لا أمل في تعليم ناجح
7-قلة او فقد البني التحتية المناسبة...
فجل المدارس –خاصة الخصوصية- لم تصمم أصلا لأن تكون مدارسا... إنما هي منازل سكنية... أما المؤسسات الرسمية فحالتها كارثية بسبب الإهمال الناتج عن عدم الصيانة الدورية... و ما لم تمم مزاولة العملية التربوية التعليمية في مرافق بمواصفات فنية بها ساحات رياضية و بها مكتبات و بها وسائل لعب و ترفيه هادفة و بها مرافق و وسائل للتدريب و التكوين... بالإضافة الى سياسة للصيانة المؤسسات و رعايتها بشكل مستمر... ما لم يوجد ذلك فلا مستقبل و لا أمل في تعليم ناجح.
8-تخوف المجتمع و توجسه من أي عمل او أفكار مختلفة عن ما هو سائد و مألوف...
و هذا ما جعل الأفكار الإبداعية لا تلقى قبولا و لا دعما من عامة الناس بل قد تجد مقاومة شرسة لخروجها عن المألوف عندهم ... و ما لم يدعم المجتمع ماديا و معنويا الأفكار الإبداعية التي تنهض بالتعليم و التربية فلا مستقبل و لا أمل في تعليم ناجح...
خلاصة ما سبق -أيها السادة الأفاضل- هي:
لا مستقبل لأمة لا تضع التعليم على رأس أولوياتها
لا مستقبل لأمة لا يعيش فيها المعلم مكرما محترما و مبجلا...
لا فائدة ترجى من تعليم ينفذ بالوسائل القديمة و في مؤسسات متهالكة
اللغات الحية تدرس و اللغة الأم هي لغة التعلم
البرامج التي لا تخضع لصيانة دورية سيتجاوزها الزمن سريعا
إدخال علوم التنمية البشرية و المهارات أضحى ضرورة و لم يعد خيارا
القرآن الكريم يجب أن يكون مقررا إلزاميا في المدارس لأنه أصل لكل علم و لكل خير في الدنيا و الآخرة... و هو العاصم من التيه و الضلال و التطرف و الإرهاب و الفتن ما ظهر منها و ما بطن... يكون ذلك عندما يتم تلقيه من مصادره المؤتمنة في المؤسسات الرسمية و في مراحل التمدرس الأولى.
المتون هي خلاصات علمية مضغوطة في نصوص يسهل حفظها و هي زاد خفيف الحمل لا بد للطالب من التزود منها.
اللغات الوطنية مكون رئيسي للشخصية الوطنية و هي وسيلة للتفاهم و التعارف و التآخي و الانسجام المجتمعي لذا فتعلمها حاجة و ضرورة... و أفضل مكان لتعلمها هو المدارس و أفضل فترة عمرية لذلك هي فترة الطفولة.
و أخيرا... بل أولا لا مستقبل لأمة لا تضع التعليم على رأس أولوياتها.
هذا باختصار... و خير الكلام ما قلّ و دلّ... و الله من وراء القصد.
____________________________________
ملاحظة:
الكتابات أوالآراء الواردة في الموقع لا تمثل بالضرورة وجهة نظر الموقع وإنما تمثل وجهات نظر أصحابها.
د. محمد محمود سيدينا.