عرفت المجتمعات المتحضرة نهضة نوعية في كافة المجالات الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و التنموية، بفضل الدور الريادي و الفعال، لمختلف هياكل وتنظيمات المجتمع المدني، الذي أصبح يشكل في هذه الدول و المجتمعات،أحد أهم ركائز التنمية و الفاعل الأساسي في تجسيد استراتيجيات و برامج الحكومات، ليكون بذلك جسر التواصل بين الحكومات و المجتمعات و الواجهة الحقيقية لتطور المجتمعات و تقدم مستوى وعيها ورقيها.
وكما هو الشٌأن، في أي بلد آخر، فإن مفهومًا معينًا ل "المجتمع المدني" كان قد تجذر ، منذ أمدٍ طويلٍ في واقع فضائنا الاجتماعي والسياسي والمؤسسي والثقافي، فموريتانيا عَرفت أشكالاً من الحياة الجمعوية التقليدية، المرتبطة غالبًا بشبكات التضامن وخصوصًا على المستوى المحلي.
أما المفهوم الحديث للمجتمع المدني، بصفته مجالاً بين الدولة والقطاع الخاص، مشكلاً من المواطنين،الذين ينتظمون في شكلٍ جماعيٍ ومستقلٍ للدفاع عن القيم والمصالح المشتركة في نطاق عمومي،فهو جديد نسبيًا في السياق السياسي و المؤسسي لموريتانيا.
وهكذا فإن ظاهرة "المنظمات غير الحكومية " و "شبكات المنظمات غير الحكومية" هي ظواهر حديثة للغاية في المجتمع المدني ويبقى التأثير القبَليُ و العرقي و السياسي و الفكري،وحتى ألمصلحي في تأسيس أو تسيير هيئاتِ المجتمع المدني الحديثة ملاحظًا،بنسبٍ تفاضلية مقارنة بين المدن الكبرى و غيرها وكذا عبر تطور المعرفة و الحياة المدنية بشكل عام.
و قد شهدت الدولة الموريتانية،منذ نشأتها دورًا طلائعيًا للنخبة المثقفة أو المتعلمة آنذاك في شتى المجالات السياسية و الاجتماعية و الثقافية،كان للإرادة و الروح الشبابية الدور الأبرز فيها، و مع انحصار أهدافها بداية في ترقية و توعية المجتمع،بغية مواكبته للحياة المدنية و متطلباتها بالدرجة الأولى إلا أنها ما فتئت تتشعب إلى أدوار و أهداف مختلفة و شاملة لكافة المجالات الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية.
فقد تم توقيع اتفاقيات " كُوتُونُو" بين الاتحاد الأوروبي وبلدان إفريقيا ودول الكاريبي والمحيط الهادي سنة 2000 ،ليظهر مفهوم الفاعلين غير المرتبطين بالدول و الذي يعني المنظمات وليدة إرادة المواطنين، بأهداف كسبية أو بدونها، المستقلة عن الدولة والتي يكون هدفها ترقية موضوع أو الدفاع عن مصالح من المفترضِ أن تكون مشتركة و غير خصوصية) لأغلبية من المواطنين ( وهي حالة التجمعات، ذات المنافع الاقتصادية أو التعاونيات و سرعان ما برز هذا المفهوم كتكريسٍ لمشاركة الفاعلين غير المرتبطين بالدولة – بمختلف تنوعاتهم،باعتبارهم عنصرًا أساسيًا في مسار تنمية بلدانهم.
أولاً:غياب الاستراتيجيات
1-غياب الاستراتيجيات الحكومية أو الإدارية المُنِظمة للمجتمع المدني: ويتجسد ذلك من خلال: غياب رقابة صارمة وجادة على أداء الجمعيات الشبابية في الساحة و تقييمها و تأطيرها.
مما يفسر دور المتفرج للمندوبيات الجهوية للشباب،لا بل انشغال أفرادها و العاملين فيها بشؤون خاصة، لا تخدم سوى مصالحهم الشخصية،بعيداً عن التكليف و المهام و المسؤوليات التي يتقاضون عليها رواتب من خزينة الدولة.
إضافة لغياب الأنشطة ذات البعد المشترك الجامع،لكل جهودِ و خبراتِ مختلف الجمعيات و المنظمات الناشطة،والعاملة على مستوى الساحة،بغية تجسيد روحِ التنافس الايجابي،خدمةً للمصلحة العامة المشتركة
. ب- غياب سياسة الدعم المادي و المعنوي، من خلال تجسيد تشاركيه حقيقية ونموذجية،بين الإدارة و الجمعيات الشبابية،تحقيقًا لأهداف السياسات و البرامج التنموية و الثقافية...، و انعدام الدعم المادي المبني على أسس تعاون قانونية واضحة من أجل ضمان عدم استغلال الرسالة الثقافية و توجيهها لغير أهدافها الحقيقية التي رُسِمتْ لها أصلاً، فلا يعني تمويل المجتمع المدني على المستوى المحلي وضع نقودٍ على الطاولة فقط ؛بل يعني الاستثمار في الزمان،لرأس المال البشري و المالي،وهو بالأخص الاستثمار في المستقبل و العمل ليكون الاستثمار مفيدًا لأكبر عدد ممكن.
ج-غياب إطار قانوني،مؤسسي ملائم؛و جامع لكافة عناصر و مكونات المجتمع المدني،مع مراعاةِ الاختلاف،بين التنظيمات و اختصاصاتها (رياضية – ثقافية – خيرية ...).
2-غياب الاستراتيجيات التنظيمية الداخلية،للجمعيات و المنظمات الشبابية
من خلال :
أ-عدم تطبيق الأنظمة الداخلية و الأساسية، المنشئة،لكل جمعية أو منظمة، إضافةً لانتشار عقلية التقليد و التداخل في البرامج و الأنظمة و حتى الأنشطة التي تقتصر في غالبها على الرسالة المسرحية.
ب-انعدام روح التشاركية و توحيد الجهود بين الجمعيات الشبابية،ذات الأهداف المشتركة، إضافةً لعدم تفعيل الهيئات والمؤسسات المعنية،بتوحيد و تأطير جهود المنظمات و الجمعيات الشبابية(شبكات جمعوية) من خلال استثمار وتسهيل تبادل الخبرات والمعلومات بين هذه الجمعيات و تقوية قدراتهم.
ج-انعدام التكوين و التأطير المستمر من أجل الاستمرارية في المسار و إيجاد جيلٍ قادرٍ على التجديد و تحمل المسؤولية
. ثانيا:تحكم الولاءات: انطلاقًا من تعريف المركز الموريتاني، للتحاليل السياسية "للمجتمع المدني: " ((المجتمع المدني يتشكل من مجموع الفاعلين، فرادى أو مجتمعين، شخصيات اعتبارية أو طبيعية، المنضوين في تشكيلة اجتماعية مؤسسة،حول دولة القانون أو تطمح إليها يوجدون خارج الحقل السياسي الحزبي،و يتموقعون في الفضاء العام،لترقية المصلحة العامة والدفاع عنها ،وهؤلاء الفاعلون ديمقراطيين بشكل أساسي، منتمين لقيم حقوق الإنسان ومنتظمين في الحياة الجمعوية على أساس مبادئ ديمقراطية)) المركز الموريتاني للتحاليل السياسية؛ 2009.
وانطلاقاً من هذا التعريف،فإن الدور الشبابي في تجسيد تنمية شاملة،من خلال منظمات و جمعيات ثقافية و تطوعية وخيرية مستقلة عن الطرح السياسي و حاضنة لكافة الجهود و القدرات،ظل حبيسًا لسياسات وبرامج حزبية و مصلحية ضيقة لا تخدم الهم العام و لا تراعي المصلحة المشتركة،بعيداً عن الحساسيات السياسية و المصالح أو المطامع الشخصية.
مما أعطى صورةً سلبيةً عن دور المجتمع المدني، المحوري و المستقل. وتنقسم الجمعيات و المنظمات الشبابية،حسب الو لاءات إلى ثلاثة أنواع
: 1-جمعيات الولاء السياسي أو الفكري: و هي تجسيد للأجنحة الحزبية،في مختلف المجالات ،و إما أن تكون جمعيات متكاملة،تابعة لتوجه أو طرح سياسي معين، أو أن يكون أشخاص في مراكز قيادية لجمعيات و منظمات شبابية يتحكمون في القرارات الادارية للجمعية ويوجهونها حسب الأوامر الحزبية و الرهانات السياسية.
2-جمعيات الولاء العرقي أو الشرائحي: فبالرغم من أن هذا النوع من الجمعيات،ينشط أساسًا من أجل إيصال رسالة ثقافية عن عادات و تقاليد شرائح معينة،إلا أن تقوقعه على نفسه و إغلاق مجال نشاطه أداءً و استفادةً على شريحة محددة، يساهم بشكل أو بآخر إلى تنامي مؤشر انعدام الوحدة و الانسجام بين مكونات المجتمع.
3-جمعيات الظل أو الجيوب: فهذه مجرد أسماء و شعارات فارغة من المضمون غائبة من حيث الأداء و الممارسة للعمل الجمعوي حاضرة دومًا في المزاحمة على الاستفادة المادية بشكل خاص.
و المشتركات الأساسية بين هذه التشكيلات،هي غياب استراتيجيات و برامج عملية واضحة، وذات نظرة مستقبلية،إضافةً للاستغلال في غير محله،لجهودٍ وطاقاتٍ شابة و ترسيخ الصورة السلبية،للمجتمع المدني و دوره المحوري في تنمية و توعية المجتمعات،وكذلك عدم القدرة على تطوير المجتمع المدني في موريتانيا وتفعيل دوره بصفته شريكًا أساسيًا في مسار التنمية.
ونتيجةً لهذه التراكمات من الأداء الفاشل للمجتمع المدني(الجمعيات و المنظمات الشبابية، بشكل خاص) و مساهمتها المتواضعة في تثقيف و توعية المجتمع وهو يخطو خطواته الأولى،نحو المدنية المعاصرة، ها نحن اليوم أمام مجتمع معرض لأخطار جسيمة،بفعل التأثر السلبي،بالثقافات الغربية، و الانفتاح اللا محدود على العالم الآخر وهو مع ذلك،غير محصن،علميًا و ثقافيًا،ليصبح بذلك،عرضةً لمختلف أنواع الاستنساخ الحضاري و الثقافي و حتى الديني.
إن مجتمعنا اليوم يعايش تحضرًا سلبيًا في كافة المناحي التربوية و الاجتماعية و الثقافية،فالأجيال ضائعة بين التخلي عن المسؤوليات الأسرية و الأدوار التربوية و انعدام حاضنة نخبوية توعوية إرشادية.
مما يستوجب على الجميع،تكاتف الجهود و توحيد الطاقات من أجل تأسيس دعائم قوية ينبني عليها مجتمع موحد،ضد مختلف أنواع الغزو الفكري و الحضاري، مجتمع الضامن الأساسي لوحدته و استقراره ونموه هو الوعي و التحضر و المدنية الايجابية،مجتمع تتكامل فيه،أدوار النخبة،بعيداً عن الحساسيات السياسية،استشعارًا للخطر المحدق وتحملاً للمسؤولية اتجاه الوطن و المجتمع قبل فوات الأوان.
فإذا كان جميع الفاعلين يعترفون بشبابية المجتمع المدني المحلي والحاجة إلى تقوية قدرات هيئاته،فالأمر يستدعي حسب رؤية- مجموعة انواكشوط الحضرية – "دليل هيئات المجتمع المدني المحلية" - الانتباه لتوفر احتمالين متناقضين،حول قضية رهانات المجتمع المدني.
فبعض هيئات المجتمع المدني المحلية لديها رؤية "فنية" حول الرهانات؛ وهي رؤية اختزالية في الغالب ولا تتجاوز المدى القصير، وتعتمد بقوةٍ على حاجيات المنظمة نفسها.
وبعضهم الآخر، يدافع عن رؤية "استراتيجية"؛ تضع الرهانات في الإطار الأوسع، للتطورات المرجوة للمجتمع الموريتاني والأدوار الجديدة،التي يتعين على هيئات المجتمع المدني أن تلعبها بصفتها فاعلاً في التغيير الاجتماعي،عمليًا لا يكون التفريق بين النظرتين دائمًا دقيقًا تمامًا،فبعض هيئات المجتمع المدني المحلية لديها رؤية حول الرهانات، تدخل في إطار التصورين.
و من أجل الحصول على مجتمع مدني محلي فعال، يتعين على المُشرِع الموريتاني، تقوية الجهاز المؤسسي و الإطار التنظيمي،الذي يحكم أنشطة المجتمع المدني في موريتانيا وذلك، من أجل تسهيل عمليات تأطيرٍ وتنظيمٍ أفضل، لهيئات المجتمع المدني المحلية.
مما يستوجب حسب دليل هيئات المجتمع المدني المحلية مراعاة الأساسيات التالية:
• تطوير المجتمع المدني في موريتانيا وتفعيل دوره بصفته شريكًا أساسيا في مسار التنمية.
• وضع إطار قانوني و مؤسسي ملائم.
• إنشاء ميثاق لأخلاقيات المهنةّ.
• إنشاء قواعد تسيير ديمقراطي، لهيئات المجتمع المدني المحلية.
• تحديد مكونات ومهام المجتمع المدني المحلي بصفة توافقية.
• تقوية قدرات تدخل المجتمع المدني.
بقلم:إسحاق احمد أمبيريك
____________________________________
ملاحظة:
الكتابات أوالآراء الواردة في الموقع لا تمثل بالضرورة وجهة نظر الموقع وإنما تمثل وجهات نظر أصحابها.