الحمد لله المحمود على كل حال و مغير الأحوال نحمده حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا و يرضى.
و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين وعلى و أزواجه و صحبه أجمعين و من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
هذه مقالة عن مفهوم أساسي من مفاهيم الإسلام و ركيزة من ركائزه الأساسية و ما أحوج الأمة اليوم إلىه و هو مفهوم الوسطية في الإسلام هي وصف لهذه الأمة في كتاب الله تعالى فقال سبحانه: (وَ كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) ايها القارئ لقد كان الإسلام ثورة على المفاهيم والمعتقدات الفاسدة ، حرباً على الهبوط الأخلاقي والاجتماعي تنظيماً للحياة الاقتصادية وتحريراً لها من الاستغلال وتطهيراً من الجشع والطمع ، و ضبطاً لشهوات ونزوات الأفراد . فكان حضارة رفعت من قدر الإنسان وأعلت من شأن القيم الفاضلة ، كانت شعاعاً في عصور الظلمة والإقطاع ، ونوراً أضاء ظلمات الجهل والضلالة ، وأبعدت الغلو ونبذته ونهت عنه ودعت إلى الوسطية كسلوك ومنهج حياة .
اخي القارئ الوسطية: من أهم مميزات حضارتنا الوسطية والتوازن بين الافراط والتفريط في الأفكار والمعتقدات والالتزامات، وإن كان بها المفرطين والمتشددين ولكن الصيغة العامة، هي الوسطية والمرونة والتوازنية المأخوذة من الاسلام الحنيف [وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس..](18).
إنها الموازنة والوسطية بين العقل والوحي وبين المادة والروح وبين الحقوق والواجبات وبين الفردية والجماعية وبين النص والاجتهاد، وبين المثالية والواقعية وبين الاستلهام من الماضي والتطلع إلى المستقبل..
إن الوسطية التي جاء بها الإسلام، والوسطية التي جعلت فيها الأمة الإسلامية وشرفها الله بها.. ليست الوسطية المبتدعة في الفكر المستورد الحديث.
أيها القارئ: إن الوسط المبتدع في الفكر العصري، وسط عفن، قام بين تراكمات عفنة من اليمين واليسار. ولا شك أن اندفاع بعض المجتمعات الإسلامية إلى هذا الوسط العفن، وما جاء حوله من يمين ويسار، يعد عند الدارسين لتطور الشعوب، كارثة فكرية خطيرة، وردة جاهلية وثنية.. والوسطية الإسلامية وسطية عامة شاملة، لا تعترف بتقسيم اليمين والوسط واليسار. بل إنها:
1- في العقيدة تقوم على توحيد الله وإفراده بالعبادة، والتمسك بما شرع من آداب السلوك والمعاملة..
2- وفي التشريع تقوم على أصول رئيسية، مصدرها الأساسي: القرآن الكريم، وسنة الرسول محمد صل الله عليه وسلم و الإجماع وهو:(ما أتفق عليه علماء المسلمين الذين بلغوا درجة الإجتهاد).
3- وفي الأخلاق تقوم على خلوص النية، ونقاء الضمير، والتمسك بقيم الخير، والحق، والتزام الآداب الفردية والاجتماعية..
4- وفي الاجتماع تقوم على الأسرة المتماسكة القائمة على ركائز المودة، والرحمة، والإخلاص، والاحترام والتعاون..
5- وفي السياسة تقوم على الشورى، واحترام حقوق الإنسان، والتزود بكل أسباب القوة، والدفاع عن العقيدة..
6- وفي الاقتصاد تقوم على تبادل المنافع، واتخاذ المال وسيلة لا غاية واحترام الملكية الفردية..
7- وفي الثقافة تعتمد على طلب المعرفة، واستخدام العقل في كسب المعارف..
8- وفي الفكر تقوم على استنهاض العقول، وحرية الفكر، واستقلال الإرادة..
فأي وسطية أسمى من هذه الوسطية التي ارتضاها الله، وجعلها سمة هذه الأمة الإسلامية، ذات الحقيقة الكبيرة، والوظيفة الضخمة في هذه الأرض، ويقول في ذلك شهيد الأمة الإسلامية سيد قطب: ((إنها الأمة الوسط التي تشهد على الناس جميعا، فتقيم فيهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم، وتبدي فيهم رأيها.. فيكون هو الرأي المعتمد، وتزن قيمهم، وتصوراتهم وتقاليدهم، وشعاراتهم. فتفصل في أمرها، وتقول: هذا حق منها، وهذا باطل.. لا التي تتلقى من الناس تصوراتها، وقيمها، وموازينها وهي شهيدة على الناس، وفي مقام الحكم العدل بينهم. وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فإن الرسول هو الذي يشهد عليها، فيقرر موازينها وقيمها، ويحكم على أعمالها وتقاليدها، ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيه الكلمة الأخيرة.. وبهذا تتحقق حقيقة هذه الأمة، ووظيفتها، لتعرف وتشعر بضخامتها ولتقدر دورها حق قدره، وتستعد له استعدادا لائقا.. وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط. سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي.
إنها امة وسطا تتميز بما يلي:
{أُمَّةً وَسَطا} في التصور والاعتقاد. لا تغلو في التجرد الروحي، ولا في الارتكاس المادي.لا تفريط ولا إفراط: في قصد، وتناسق، واعتدال..
{أُمَّةً وَسَطا} في التفكير والشعور، لا تجمد على ما علمت، وتغلق منافذ التجربة والمعرفة. ولا تتبع كذلك كل ناعق، وتقلد تقليد القردة المضحك، إنما تستمسك بما لديها من تصورات ومناهج وأصول، ثم تنظر في كل نتاج الفكر والتجريب.. وشعارها الدائم: الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها أخذها، في تثبت ويقين..
{أُمَّةً وَسَطا} في التنظيم، لا تدع الحياة كلها للمشاعر والضمائر، ولا تدعها كذلك للتشريع والتأديب. إنما ترفع ضمائر البشر بالتوجيه والتهذيب وتكفل نظام المجتمع بالتشريع والتأديب وتزاوج بين هذه وتلك. فلا تكل الناس إلى وسط السلطان، ولا تكلهم كذلك إلى وحي الوجدان، ولكن مزاج من هذا وذاك.
{أُمَّةً وَسَطا} في الارتباطات والعلاقات لا تلغي شخصية الفرد ومقوماته، ولا تتلاشى شخصيته في شخصية الجماعة أو الدولة، ولا تطلقه كذلك فرداً أثراً جشعاً، لا هم له إلا ذاته.. و إنما تقرر من التكاليف والواجبات ما يجعل الفرد خادما للجماعة، والجماعة كافلة للفرد، في تناسق، واتساق..
{أُمَّةً وَسَطا} في المكان، في سرة الأرض، وفي أوسط بقاعها، وما تزال هذه الأمة التي غمر أرضها الإسلام، إلى هذه اللحظة.. هي الأمة التي تتوسط أقطار الأرض بين شرق وغرب، وجنوب وشمال،
{أُمَّةً وَسَطا} في الزمان، تنهي عهد الطفولة البشرية من قبلها، وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها، وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام، وخرافات، في عهد طفولتها، وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى، وتزاوج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات، ورصيدها العقلي المستمر في النماء، وتسير بها على الصراط السوي بين هذا وذاك)).
فتبين أنّ الوسطية والتوسط في الدين هي: كل حق بين باطلين من الاعتقادات والأعمال والأخلاق.
فمن سلم لله ولرسوله صل الله عليه وسلم، وعَمِلَ بما ورد في القرآن وصح عن رسول الله صل الله عليه وسلم من العقائد والشرائع فهو من أهل هذه الوسيطة والاعتدال والخير، وكلّ من تعدى حدود الشرع أو قصر عن القيام بها فقد خرج عن دائرة الوسطية بحسب عدوانه أو تقصيره.
قال ابنُ القيم: «فدين الله ضاع بين الغالي فيه والجافي عنه، وخيرُ النَّاسِ النمط الأوسط الذين ارتفعوا عن تقصير المفرطين ولم يلحقوا بغلو المعتدين، وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطا وهي الخيار العدل، لتوسطها بين الطرفين المذمومين، والعدل هو الوسط بين طرفى الجور، والتفريط والآفات إنما تتطرق إلى الأطراف والأوساط محمية بأطرافها فخيار الأمور أوساطها»(1).
أخي القارئ : ومما ينبغي التفطن له خطأ ما انتشر في الكتابات المعاصرة من جعل "الوسطية" حالة تقوم على التوفيق بين السنة والبدعة، بل بين الكفر والإسلام كما في دعوتي التقريب بين السنة والشيعة، والنصرانية والإسلام التي هي فرع عن الدعوة لوحدة الأديان.
ومن هذه الوسطية الترخصات المذمومة التي أساسها اتباع الهوى بتتبع الأقاويل الشاذة والمخالفة للدليل، والتي قال فيها بعض العلماء: «من تتبع الرخص تزندق».
ومن أصحاب هذه الوسطية بعض المواقع والصحف التي تعطي الفرصة - باسم الحوار والمحايدة - لذوي الأقلام المسمومة والأفكار المشبوهة لينفثوا سمومهم وأفكارهم.
ومعلومٌ أنه ليس من أسس الدعوة إلى الله ومطالبها استدعاء الشبهات ونشرها بحجة الردّ عليها، بل المطلوب في الدعوة إلى الله - وهو نوعٌ من الجهاد - كشف شبهات المبطلين من الكافرين والمبتدعين، ونشر ذلك إذا ظهرت المصلحة.
لذالك علينا ان نكون على وعي فمن العجيب أنّ كلاً يدعي الوسطية لنفسه:
- فالخارجي يدعي أنّ مذهب الخوارج "وَسَطَ".
- والمرجئ يدعي أنّ مذهب المرجئة "وَسَطَ".
- والعقلاني يدعي أنّ منهجه "وَسَطَ".
- والمفرط يدعي أنّ منهجه "وَسَطَ".
- وربما العلماني - وغيره - يدعي أنّ منهجه "وَسَطَ"!!.
- والوسطية لا تعرف بمجرد الدعوى، وإنما تعرف بالدلائل والبينات.
- والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أبناؤها أدعياء
وإنمّا تعرف الوسطية الحقة بطاعة الله ورسوله، والتسليم لهما ظاهراً وباطناً.
إن الوسطية والتوازن من أعظم النعم التي يمن بها سبحانه على عباده،
والحق أن الوسطية في مفهوم الإسلام منهج أصيل ووصف جميل ومفهوم جامع لمعاني العدل والخير والاستقامة، فهي حق بين باطلين واعتدال بين تطرفين وعدل بين ظلمين.
والله الموفق والهادي إلى الصواب .
ما كان من صواب فمن الله و ما كان من خطإ فمن نفسي و استغفر الله العظيم الجليل و أتوب إليه.
____________________________________
ملاحظة:
الكتابات أوالآراء الواردة في الموقع لا تمثل بالضرورة وجهة نظر الموقع وإنما تمثل وجهات نظر أصحابها.