مساحة إعلانية

سعر الحديد تركيز: 62%

 

110,28 $    

مساحة إعلانية

Résultat de recherche d'images pour "‫مساحة اعلانية‬‎"

تابعونا على الفيس

فيديو

اللُّغة العربية تَقِف على ثنيّة الوَداع / محمد المصطفى ولد محمد سالم

أحد, 13/03/2016 - 22:05

شهدت البلاد الشنقيطية منذ القرن 12 هجري نهضة في دراسة علوم اللسان العربي ومتعلقاته جعلتها استثناءً من حالة الانحطاط التي عاشها العالم العربي في القرون الأخيرة ، وكانت المحاظر هي الحضن الذي غُذيت فيه تلك النهضة وأنتج الكم الهائل الذي نشهده اليوم من الآثار والملَكات العربية اللسانية والذهنية ،

وانصهر بفضله سكان هذا المجال الجغرافي على اختلاف لهجاتهم وأعراقهم .
كانت المعارف المحظرية تسير على خطين متوازيين هما : العلوم الشرعية والعلوم العربية ، يتنافسان على اهتمام أجاويد الطلبة ومقررات أمهات المحاظر ، واستمر الأمر على مستوى مقبول من التوازن بين هذين الجانبين أيام ازدهار المحظرة قبل أن يزاحمها التعليم النظامي وتضايقها العلوم العصرية .
وفي ظل الدراسات النظامية بمختلف مراحلها بقي للعربية مساحة مَّا في المقررات والكليات ، تضيق وتتسع حسب اتجاهات السياسات التربوية في البلد ، بل إننا نستطيع أن نقول إن المظهر العام في الوقت الحاضر يبدو مطمئنا على سيادة اللغة باعتبارها لغة الدستور ولغة التعليم ولغة التعامل المكتوبة بين الغالبية العظمى من الشعب ، وكذلك لا ينكر فضل وسائل الإعلام والنشر المقروءة والمسموعة في بقاء اللغة في جانبها التطبيقي حيةً نشطة وتسهيل تعميمها وتوسيع نطاق استخدامها ، وسيطرتها على اللهجة العامية .
لكن الحقيقة أن ذلك لا يتجاوز المظهر الذي لا يغني شيئا فيما نحن فيه ، وأن الكشف عن عدد المتخصصين من ذوي المؤهلات الجامعية والأكاديمية في علوم اللغة – وأقصد هنا فنّي النحو والصرف – ومعرفة نسبتهم إلى فروع المعرفة الأخرى يجعل المرء يصاب بالذهول ويدرك حجم التراجع والغربة الذي تعيشه هذه المادة ، ويكفي للتدليل على ذلك أن نأخذ مثالين من الواقع العملي ينبهان على ما خلفهما وهما :
1- قبل نحو أربع سنوات نظمت جامعة العلوم الإسلامية في العيون مسابقة لاكتتاب مجموعة من الأساتذة الجامعيين والباحثين في مختلف التخصصات ومن بينها مقعدان للنحو والصرف ، والمفاجأة أنه على سبيل المثال جاء عدد المترشحين لمادة الجغرافيا البشرية 8 أشخاص ، وللقانون الخاص 7 ، وللفقه 12 ، وكتب أمام مادة النحو والصرف : "لا يوجد أي مترشح" .
2- في السنة الراهنة افتتح المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية شعبة لمرحلة "الماستر" في الشريعة واللغة العربية يستفيد منها نحو 70 طالبا بالتساوي بين التخصصين ، وفي الوقت الذي يتنافس فيه المئات من حملة المتريز  في الفقه وأصوله (ولله الحمد على ذلك) لملء مقاعدهم ، كانت شعبة اللغة العربية تستجدي من يتقدم إليها بطلب انتساب فلا تجده ، وفي الأخير لجأت إلى إكمال نصابها من شعبة الفقه .
إن هذا الأمر ليحمل دلالة كبيرة على تصحّر معرفي لغوي قادم إن لم يُتلافَ الموضوع بصفة حازمة وجدية.
لو كان ما جرى في بلد مُصدر للتكنولوجيا المتطورة أو يتمتع بثقل سياسي أو عسكري منظور لكان في بعض العلوم عوض عن بعضها الآخر ، وفي أحد جوانب القوة عزاء عن زوايا الضعف والانهيار المتوقع ، أما في بلدنا الذي ارتبطت وانحصرت سمعته في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي بالتفوق في هذه اللغة ومشتقاتها ، وكَتب رجاله أسماءهم في عالم النجومية والشرف بهذه الميزة والخصوصية فتلك خسارة للشعب والدولة والمجتمع .
هل يعقل أن لا يجد أحفاد المختار بن بونا وعبد الودود والحسن بن زين ويحظيه بن عبد الودود غداً من يدرّسهم حركات الإعراب وأوزان التصريف ويميز لهم بين الألفية والاحمرار وبين الطرة والحاشية ،؟ هل يمكن أن تنفلت لغة القرءان هكذا من بين أيدينا وقد كان شاعرنا ينشد غير مكذّب :
لنا العربية الفصحى وإنا – أشد العالمين بها انتفاعا
مفهومٌ أن اختلال التوزيع بين التخصصات الذي أجحف باللغة ناتج عن عدة عوامل أهمها ما يرتبط بمتطلبات سوق العمل ، لأن التعليم صار وسيلة وسلمًا للوظائف، ولم يعد في الغالب هدفًا مباشراً ، الأمر الذي يتيح لذوي التخصص الفقهي العمل في أكثر من مجال كالتدريس والقضاء والاستشارات والمحاماة وغيرها ، أما صاحب الشهادة اللغوية فعليه في ظل غياب المجامع اللغوية واستغناء الإعلام والإعلاميين عن تصحيحاته وتدقيقاته أن يجلس في بيت أبيه حتى تجود له الإدارة الجامعية بساعتين أسبوعيا إن وجد من يتلقّى عنه أو يصغي إليه.
كما أن من العوامل المهمة للعزوف عن اللغة تلك المضايقات التي تتعرض لها بدوافع مختلفة سياسية وفكرية وعرقية من طرف اللغات الأجنبية وهو ما لم تستطع الدولة حتى الآن أن تصنع فيه تقدما يذكر .
يجب علينا قبل فوات الأوان أن يناشد كل منا في موقعه رجالَ الثقافة والفكر وقادة الرأي والمجتمع من أئمة وفقهاء وأساتذة وحقوقيين وعاملين في مجال التربية والتعليم ، وقبل ذلك رجالَ السياسة والسلطة لاتخاذ قرارات حاسمة وانتهاج مناهج ملزمة لكل المؤسسات في بلادنا من أجل وضع خطط مدروسة وفق مراحل زمنية محددة لضمان أن تكون العربية الفصحى اللغة السائدة في المؤسسات والفنون والتعليم والمؤتمرات ، وذلك من خلال :
- تصحيح مسار السياسات التربوية واتجاهات سوق العمل بما يرفع الحيف عن اللغة .
- الرفع من شأن بقايا المتخصصين في العربية ماديًّا ومعنويًّا.
- ضرورة تكوين أجهزة متابعة لغوية في كل مؤسسة إعلامية لتقويم الأخطاء اللغوية أولاً بأول وذلك للحرص على حيوية اللغة وفاعليتها وموقعها في النفوس وفي وجدان المجتمع .
- مراجعة ميزان الدرجات والضوارب المخصصة للنحو والصرف في الامتحانات في مراحلها المختلفة .
إلى غير ذلك من التدابير والإجراءات ، فلم يعد كافياً أن نعقد المؤتمرات لنفخر بلغتنا أو نرثي لحالها ونبدي أسفنا وحزننا للأخطار التي تحدق بها، أو لنبدي مخاوفنا من توقع فنائها ونحن الذين لم نحرك ساكنا لتغيير الوضع وإنقاذ البناء من الانهيار والتهاوي ، ويكون ذلك إذا أدركنا شرف هذه اللغة وقداستها المستمدة من كونها لغة القرآن، وعالميتها المكتسبة من عالمية الإسلام وشموله  ، واللغة إلى ذلك ـ في كل بلدان العالم ـ مرتبطة بالوجدان والهوية وتاريخ الإنسان بوصفها جزءا من التكوين المعرفي والثقافي والعاطفي للمتكلمين بها.
منذ أكثر من ستة قرون كتب الفيروزآبادي في ديباجة قاموسه : وَمَا أَجْدَرَ هَذَا اللِّسَانَ - وَهُوَ حَبِيبُ النَّفْسِ وَعَشِيقُ الطَّبْعِ، وَسَمِيرُ ضَمِيرِ الْجَمْعِ، وَقَدْ وَقَفَ عَلَى ثَنْيَةِ الْوَدَاعِ، وَهَمَّ قِبْلِيُّ مزْنِهِ بِالْإِقْلَاعِ - بِأَنْ يُعْتَنَقَ ضَمًّا وَالْتِزَامًا كَالْأَحِبَّةِ لَدَى التَّوْدِيعِ، وَيُكْرَمَ بِنَقْلِ الْخُطُوَاتِ عَلَى آثَارِهِ حَالَةَ التَّشْيِيعِ .
رحمك الله يا إمام اللغة لقد استعجلت أمرا قبل أوانه ، لو رأيت ما وصلنا إليه في عصر الرطانة لمحوت هذه السطور ، ولنمت قرير العين .

____________________________________

ملاحظة:

الكتابات أوالآراء الواردة في الموقع لا تمثل بالضرورة وجهة نظر الموقع وإنما تمثل وجهات نظر أصحابها.